إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2011-08-29

شعر: أطلّ.


 أُطِـلُّ 
نُشرتْ في موقع 'ديوان العرب':
http://www.diwanalarab.com/spip.php?page=article&id_article=46554

أُطِلُّ مِنْ عَلٍ
أُطِلُّ مِنْ عَلٍ عَلَيْكَ
يَا زَمَنِي الْمُدَجَّجَ بِالْعُقْمِ بِالْفَرَاغْ،
يَا زَمَنِي الْخَلِيعْ
أُطِلُّ... لاَ أَرَاكْ
لاَ شُرْفَةَ تُحِيلُ عَمَّا خَلْفَهَا
لاَ خَلْفَ، لاَ قُدَّامَ
لاَ سَاعَةَ تُرَقِّصُ الْعَقَارِبَ
فيُنْشِدُ عُصْفُورُهَا الْوَدِيعْ.
s s s
أُطِلُّ مِنْ عَلٍ
كَشُرْفَةٍ فِي قُبَّةِ السَّمَاءْ
أُطِلُّ... لاَ أَرَاكْ
ألْكَوْنُ صَحْوٌ وَالسُّكُونُ أَطْفَأَ الْقَمَرْ
وَنَامَتِ الْأَلْوَانُ فِي جُحُورِهَا
وَغَابَتِ الصُّوَرْ
وَغِبْتَ فِي الْغِيَابِ أَوْ
فِي حَضْرَةٍ هَبَاءْ.
s s s
أُطِلُّ مِنْ عَلٍ
لِأَقْرَأَ السَّمَاءْ
سَمَاءَنَا الْمُلبَّدَهْ بِالْحُلْمِ بِالضَّيَاعْ
سَمَاءَنَا الْمَتَاهَةَ، سَمَاءَنَا الْحَدِيدْ
أُطِلُّ فِي الضَّجِيجْ
أَلصَّوْتُ لا يُحَدِّثُ عَنْ رَعْشَةِ الْجَسَدْ
وَالْحَرْفُ مِنْ عَطَالَةٍ قَدِ احْتَسَى صَدَاهْ
تَكَسَّرَتْ دُرُوبُهُ إلَى نُهَى الْكَلاَمْ
تَكَسَّرَ الْحَلاَلُ وَالْمُبَاحُ وَالْحَرَامْ
تَكَسَّرَ النَّشِيجْ
فِي حَضْرَةِ الإِلَهْ.
s s s
أُطِلُّ مِنْ عَلٍ
أُطِلُّ فِي ارْتِبَاكْ
أُطِلُّ... مَا أَرَى:
فِي حَمْأَةِ الْآفَاقِ لاَ ظِلَّ لِلْحَجَرْ
لاَ وَجْهَ لِلْمَدَائِنِ الْخَرَابِ
لاَ رُوحَ فِي ارْتِعَاشَةِ الْوَرِيدْ
أوْ فِي الْمَحَاجِرِ الصَّدِيدْ
لاَ لَوْنَ فِي الصُّوَرْ
لاَ لَوْنَ فِي الصُّوَرْ
لاَ لَوْنَ فِي الصُّوَرْ...

فوزيّة الشّـطّي
تونس: 2006.02.01




القانون و المواطنة


القَانُونُ وَ المُوَاطَنَةُ
[نُشر في "الموقف" على قسمين: 2 جويلية 2010 و 16 جويلية 2010]

ليس أخطرَ على بلدٍ مِن أن تَختلّ ثقةُ مواطنِيه بسلطةِ القانون فيه. فالقانونُ رغم كلِّ عيوبِه ونقائصِه ومظالِمِه هو الضّامنُ للأمنِ وللإحْساسِ بالأمانِ. وقد وُضِعتْ كلُّ الشّرائع لتُنظّم حياةَ النّاس وتَكُفّ شرّ بعضِهم عن بعضٍ مُنذ حَمّورَابِي[1] إلى أيّامِنا الحاضرة. فإذا تأخّرتْ عن أداءِ هذا الواجبِ الرّئيسِ كانت الفوضَى غيرُ الخلاّقةِ. بناءً على هذا أطرحُ سؤالا يكادُ يكون مَمجُوجا: ما صلةُ التّونسيّ بالقانون؟ وأحاولُ الإجابةَ عنه اعتمادا على أقوالٍ سائرةٍ وأفعالٍ سائدةٍ أعتبرُها تُمثِّلنا أحسنَ تَمثيلٍ، لأنّ لغتَنا تعرفُ عنّا في أحيانٍ كثيرة أكثرَ مِمّا نعرفُ عن أنفسِنا ولأنّ أفعالَنا تقولُ ميدانيّا أغلبَ ما عَرفتْه لغتُنا عنّا. أجدُنِي مضطرّةً، أنا المدافعةَ عنِ العربيّةِ الفُصحَى حتّى آخرِ رمقٍ، إلى استعمالِ عباراتٍ جاهزةٍ مِن الدّارِجةِ التّونسيّة. هذا لأنّي أشكُّ في قدرتِي على نقْل الشُّحنةِ الدلاليّةِ الّتي تتضمّنها نقلا أمِينا إلى فُصحايَ.
- "عِنْدِي شْكُونْ": اجتهدتُ في نقلِها إلى الفُصحَى كالتّالي: "عندِي مَن يُسنِدُنِي مِن ذوِي السّلْطانِ". جاءتِ العبارةُ الدّارجةُ نحويّا جملةً اسميّةً تَقدَّم خبرُها ليكونَ أبرزَ وتَأخّرَ مبتدأُها ليظلّ أغمضَ. ولو أعدْنا التّركيبَ النّحويّ إلى أصله لَصارتِ الجملةُ استفهاميّةً. وهذا ينقضُ المعنَى المرادَ. فالجملةُ خبريّةٌ تقريريّةٌ مثبتةٌ تَنقلُ مضمونًا فيه مِن الإبْهام أضعافَ ما فيه مِن الإعلامِ لأنّ المبتدأ المتأخّرَ جاء مركّبا موصوليّا حَضر موصولُه وحُذِفَت صِلتُه. والعنصر المحذوفُ مُقدّرٌ في الأذهانِ مُضمَرٌ في القلوبِ ينزِلُ على السّامعين نزولَ الصّاعقةِ. في الفُصحَى لا معنَى للموصولِ في غياب الصِّلة. لكنْ في هذا المثالِ الدّارجِ أدّى الحذفُ المعانِيَ الّتي لا يستطيعُ الذّكرُ أداءَها. إذْ وهبَها سِحرًا غامِضا وفتَحَها على تأويلاتٍ شتّى يحدِّدُها السّياقُ، منها التّبجّحُ والفخرُ والتّهديدُ والاحتماءُ وسَدّ النّقص... هذه  العبارةُ السّاحِرةُ الفاجِعةُ قنبلةٌ ذكيّة تُذهِب النّومَ عن الجفونِ وتجعلُنا في حالةِ ترقّبٍ: متَى، يا تُرَى، ستحُلّ علينا لعنةُ المسؤولِ الشّبحِ؟!
   تتردّدُ هذه العبارةُ المبهمَةُ على الألسنةِ في محلِّها أحيانا وتأتِي غالبا لا محلّ لها مِن الإعرابِ. فالتّونسيّ يحتاجُ حاجةً حقيقيّةً إلى التّغنِّي بكونِه مسنُودَ الظّهر عريضَ الكتفِ. ويُبرهِنُ صحّةَ ما ادّعَى بتسميةِ المسؤول الّذي يحمِيه في الحقِّ كما في الباطلِ على حدٍّ سواءٍ. يُسمِّيهِ في خطابِه الْمُعَدِّ سلفًا أكثرَ مِمّا يُسمِّي نفسَه. كأنْ لا قيمةَ لهذا "المواطِن" في ذاتِه، إنّما يكتسبُ قيمةً مّا مِن انتمائِه إلى ذاك المسؤول. لا يهمّ أن يكون السّندُ المزعومُ في السّياسةِ أو القضاءِ أو الحمايةِ المدنيّة أو شركةِ استغلال المياه وتوزيعها... حسبُنا وجودُه ولوْ خارجَ المجموعةِ الشّمسيّةِ.
- "بَرَّ اِشْكِي": تعادِلُ في الفصحَى تقرِيبا عبارةَ "اذْهَبْ وقدِّمْ شَكْوَى". لكنّ صيغةَ الأمرِ فيها أكثرُ ردعًا وإذْلالا واستِفزازا. تتضمّنُ العبارةُ الدّارجةُ تحقيرًا للمؤسّساتِ القانونيّة ولِمَن يحتكِمُ إليْها مِن المواطنين المغلُوبِين على أمْرِهم الفاقدِين السَّندَ [في هذا السّياق السّندُ يعنِي "الشّكُون" المذكورَ آنِفا] الْمُحتمِين بكائنٍ هُلامِيٍّ شَبَحِيّ يُسمّى تَجوّزا "القانونَ". معناها المباشِرُ: "أنتَ خاسِرٌ لا محالةَ مهْمَا اشتكيتَ". وفي هذا سُخريةٌ لاذِعةٌ مِن المخاطَب الخصْمِ وحْدَه. ومعناها الحقيقيّ الخفِيّ: "لاَ قانونَ يُنصِفُك ويُنصفُنِي". وهذا المعنَى مِن قبيلِ السّخريةِ السّوداء الّتي تُوحِّد المتكلّمَ والمخاطَبَ تحت وقْعِ الْمُصابِ الجلَلِ، لأنّ غيابَ السّلطةِ القانونيّة يُفزِعُ الجميعَ سِوَى فطاحِلِ الجريمةِ المنظّمة.
- "مَا نِيشْ نِخْدِمْ عِنْدِكْ": تعنِي بكلِّ وُضوحٍ "لسْتُ أجِيرًا عِنْدَك". وهي عبارةٌ يكادُ يَختصّ بِها موظّفُو القطاعِ العامِّ، يُردِّدونَها لإعادةِ الأمور إلى نِصابِها كلّما تجاوزَ المسؤولُ المباشرُ حدودَه أو ليبرِّرُوا استِهانتَهم  بالواجباتِ المهنيّة أو ليعبِّروا عن حقِّهم في رفْضِ أوامرَ معيّنةٍ... يظلّ السّياقُ هو ما يضبطُ معانِيَ هذه العبارةِ الجاهزة. لكنْ أرى أنّها تلتقِي عموما مهْما تنوّعتْ حوْلَ معنَى التّحدِّي بِخيرِه وشرِّه. لا تُعادلُ عبثيّةَ القطاعِ العامّ إلاّ وحشيّةُ القطاعِ الخاصِّ الّذي لم يتركْ أيّ مجالٍ لعبارةٍ كهذه. أمّا أصحابُ المهنِ الحرّة فيلجؤون إليها للتّذكير بواقعِ الحال عادة، ويكون النّفَسُ الفخريّ عندهم جلِيّا كالشّمسِ في كبدِ السّماء. لكنْ يأتِي الاستعمالُ أحيانًا مُسقَطا أقربَ إلى العنفِ اللّفظيّ منه إلى الإبلاغِ بِمعنًى مّا.
    في إحدَى المكتباتِ المهمّةِ لا يَستنكفُ الباحثون طلبةً وجامعِيّينَ مِن نَسْخِ الكُتبِ الّتي يحتاجونَها خارجَ الإطار القانونِيِّ. إذ يَقبَلون التّعاونَ مع "مافيا" مُتخصِّصةٍ: يضعُون ثَمنَ النَّسْخ في "جيْبِ" موظّفٍ سيستغِلّ ما توفّرَ في تلك المؤسّسةِ العموميّةِ مِن ورقٍ وحِبرٍ وآلةٍ ناسخةٍ. ويكونُ رِبْحُه صافِيا لا نُقصانَ فيه. بلْ إنّ بعضَ الباحثين يتجاوزُون حدّ التّعاونِ إلى الوساطةِ واصطيادِ الحرفاء بالتّرغيبِ والتّرهيبِ، طارِحين على الضّحيّةِ المحتمَلةِ هذا السّؤالَ الإنكاريّ: "ما دُمتَ ستدفعُ المبلغَ المالِيّ نفسَه فمَا يَهمّكَ إلى جيْبِ مَن سيَذهبُ؟!" والكتابُ الّذي يُنسَخ قانونيّا خلال يوميْن تَتسلّمُه إذا تعاونتَ مع "المافيا" بعد ساعتين على أقصَى تقديرٍ. أمّا التّرهيبُ فهو مجالُ الخلقِ والإبداعِ: كأنْ يُترَكَ كتابُك بلا نسْخٍ إلى أنْ تحتجّ شفويّا وكتابيّا، أو يَأخذَ نسخُه أضعافَ المدّةِ القانونيّةِ. وأحيانا يختفِي الكتابُ لتأديبِ صاحبِه.
    لِمَ يُنكّلُ بِمَن يتعفّفُ عنِ المشاركةِ في جريمةِ الاستيلاءِ على المالِ العامِّ؟ لأنّ نسبةَ المتعاوِنين مُفزِعةٌ حقّا. يلْهجُ هؤلاء الباحثون بالوعيِ السّياسيِّ والفكرِ التّقدّميّ وينقضّون على التّخلّفِ فضْحًا وشتمًا وإدانةً وتبرّؤا ويُعِدّون المؤلّفاتِ في التّنظيرِ لسُبلِ النّهضةِ المنشودة. يُجاهِرون بِهذا وهُم يعْتلُون منابرَ النّدواتِ العِلميّةِ المحليّةِ والعالميّة. ويبقَى كلّ ذلك سجينَ حيّزِ الأقوالِ، لا تُترجِمُ الأفعالُ إلاّ نقيضَه المخجِلَ المقزّزَ. عذرُهم أقبحُ مِن ذنبِهم. بل أعتبرُ سلوكَهم أشدّ اعتداءً على القانون وعلى قِيم المواطَنة مِن "المافيا". فهذه الأخيرةُ متصالِحةٌ مع نفسِها إلى حدٍّ مّا، أمّا المتعاوِنون وصيّادُو "الفَرائسِ" فيُحسبُ عليهم الانفصامُ والادّعاءُ الكاذبُ وإنتاجُ الخرابِ العامّ. إذا كان السّاكتُ عنِ الحقّ شيطانا أخرسَ فإنّ المْحرّضَ على الباطلِ شيطانٌ ناطقٌ بليغٌ عِربِيد.   
- "هاذَاكَا مْتَاعْنَا": تعنِي: "ذاكَ مِنّا وإليْنا". تتميّزُ العبارةُ الدّارجةُ عن مُرادفِها الفصيحِ بإلحاحِها على معنَى التّملّكِ والتّشيِئة والتّبعيّة. فالموصوفُ بِهذه العبارةِ تابِعٌ حليفٌ أكثر مِمّا هو شريكٌ مساوٍ. وقولُنا: "فلانٌ محسوبٌ على فلان" هو مِن مُشتقّاتِها الأخطرِ على الواجبِ المهنيّ. ويأتِي انتشارُ العبارةِ في مختَلفِ المؤسّساتِ نتيجةً لِضعفِ سُلطة القانون. إنَّها إحدَى آليّاتِ الاحتماءِ بالتّكتّل في ما يُشبهُ "نظامَ العصابات". وتدلّ إذّاك على التّضامنِ الشّرسِ اللاّمشروطِ بين أعضاءِ التّكتّل ظالِمِين كانوا أو مظلومِين. لِذا تكونُ قيمةُ العدْلِ أكثرَ الضّحايا تضرّرا مِن رواجِها.
    في مِهنتنا كثيرا ما يصيرُ "مجلسُ التّربية" مثلاً، مَجالا لتصفيةِ الحساباتِ بين التّكتّلاتِ المتصارِعة. فإذا أُحيلَ تلميذٌ على المجلسِ بتُهمةِ العنفِ، لنْ ينصبّ اهتمامُنا على تكريسِ مبدإِ احترام ِالمتعلّم لمدرّسِه. إنّما نَنظرُ مَليّا في صاحبِ التّقرير: فإنْ كان عضوًا في الفريقِ نستمِيتُ في الدِّفاع عنْه ونُنزِّلُ بالمعتدِي أقسَى العقوباتِ، وإنْ كانَ مِن فريقٍ مُنافسٍ نَمسحُ به الأرضَ وقدْ نَمنحُ التِّلميذَ براءةَ الملائكةِ، وإنْ كان الشّاكِي مُحايِدا مُسالِما مهضومَ الجناحِ نلهُو به قليلا ونأمرُ بعقوبةٍ تذرّ الرّمادَ على إحدَى عينيه دونَ الأخرى. وفي الحالاتِ الثّلاثِ يظلّ القانونُ غائبا رُوحًا و قصْدا حتّى لوْ حضرَ نصّا و تطبيقا. ثُمّ نضحكُ باستهجانٍ مِن "التّعصُّب الكروِيّ" الّذي أفرَغ الجماجمَ مِن العقْلِ العَاقلِ.
   تثبتُ الوقائعُ المتكرّرةُ اختلال العلاقةِ بين التّونسيّ والقانونِ. وهي علاقةٌ تحكمُها القطيعةُ أكثرَ مِمّا يسودُها التّواصلُ. فنحن نتجنّب اللّجوءَ إلى القانون لأنّه لا يرُدّ إلينا حقّنا و نُعادِي مَن يلجأ إليه لأنّه بذلك يعتدِي على حقِّنا في الاعتداءِ عليه! بعيدًا عنْ هذه المفارقةِ العجيبةِ، ليس التّواصلُ الّذي نعنِيه مُرادِفًا لمِجرّدِ الخضُوعِ إلى الشّرائعِ. إنّما هو ذاك، لكنْ بالتّوازِي التّامّ مع النّضالِ في سبيلِ تطويرِها.  
   مازِلنا إذن عاجزين عنِ الفصْلِ المنهَجيِّ بين المبدإِ والشّخصِ. لِذا بِمجرّد أنْ نُوضعَ في موضِعِ القَرار نفقدُ التّوازنَ الذّهنِيّ وتُمسكُ بِخِناقنا أحقادُنا وعُقدُنا وأطماعُنا. وبِما أنّنا ندركُ أنْ لا مُواطنَ بالمعنَى الفعليّ للمواطَنةِ يحاسِبُنا، فإنّنا نَنتشِي لِبعضِ الوقتِ بالسّلطة انتشاءَ مُدمنِي الأفيونِ. ثُمّ نحاسبُ السّاسةَ ونُحمِّلُهم  أوزارَنا كلّها، حتّى إنّه يكفِي أن نُزيحَهم ونَحتلّ مقاعدَهم لنؤسِّسَ المدينةَ الفاضلة. لستُ أدافعُ عن السّاسةِ لأنّي آخرُ مَن يفعلُ هذا. إنّما أعبّرُ عن إيمانِي بأنّهم يُمثّلونَنا أحسنَ تمثيلٍ، بأنّهم مِنّا بقدرِ ما نحن فِيهم، بأنّ كبائِرَهم مِن صغائِرنا. ولن نُكفّرَ عن الأُولَى إلاّ بدفعِ ضريبةِ الثّانية دفعًا فرديّا وجماعيّا. إنّ خيانةَ الواجبِ المهنِيّ، حسْبَ هذا القياسِ المنطقيّ، لا تقلّ شأنا عنْ خيانةِ الأوطان.  
   مِمّا يُعمِّق قطيعتَنا مع القانون صمتُه في مواضعَ عِدّةٍ عن سنّ النّصوصِ وتغافلُه عن الإلزام بتطبيقِ الأحكام في مواضع عدّة. هذا يخلقُ فراغًا قانونيّا ليس دونَ الفراغِ الأمنِيّ أو الفراغِ الفِكرِيّ خُطورَةً. شاهدِي على ما أقول: جمعُ التّبرعاتِ مِن التّلاميذِ في بعضِ المؤسّسات التّربويّة لِصالح صندوقِ التّضامنِ الوطنِيّ. يتمُّ ذلك باقتحامِ القاعات، بتقطيعِ أوصال الدّرس، بتَهديدِ التّلاميذِ الممتنعِين عنِ "التّبرُّع" أو العاجزِين عنه تَهديدًا لفظيّا قاسِيا، بطردِهم مِن القاعة الّتي في عُهدةِ المدرّسِ دونَ استئذانِ هذا الأخيرِ ولو بِمجرّدِ الإشارةِ. فترتكبُ الإدارةُ بذلك عنفًا ثلاثيّ الأبعادِ ضحاياه: الدّرسُ والمدرِّسُ والمتعلّمُ. ثُمّ إنّها تنتهكُ حُرمةَ مكانٍ يكادُ يفقِدُ كلّ حُرمةٍ بِحُجّةِ تسهيلِ العملِ الإداريّ.
    النّتيجةُ المباشرةُ لِسلوكٍ كهذا أنّ بعضَ التّلاميذِ يَمتنِعون عنِ الدّفعِ لينعمُوا بعُطلةٍ مَدرسيّةٍ استثنائيّةٍ، وبعضُهم الآخرُ يَمتنِعون تحدِّيا وثورةً على القَمعِ الإداريّ. مِن الأدلّة البسيطةِ على ذلك أنّ أحدَ تلاميذِي مُنِعَ مِن مُتابعةِ الدّروسِ يومًا كامِلا لِهذا السّببِ. وجاءني شاكيا مُدّعِيا أنّ الإجراءَ الّذِي اُتّخِذَ في حقِّه غيرُ قانونِيّ. فسألتُه: «المبلغ زهيدٌ و ظروفُك العائليّةُ فوقَ المتوسِّط. فلِمَ لا تَدفعُ؟» قال: «لأنِّي أُجبِرتُ على الدّفعِ، والتّبرُّعُ لا يكونُ إلاّ طوْعًا». فلمْ أحِرْ جوابًا.
   هنا سلوكُ الإدارةِ باطِلٌ أُرِيد به الحقّ، وسلوكُ التّلميذِ حقّ أُرِيد به الباطِلُ. مأزقٌ كهذا لا يَحُلّ عُقدتَه سوى تَفعيلِ القانونِ سَنّا وتطبيقًا. ثُمّ إنّه خطرٌ حقيقيّ على قيمةٍ إنسانيّةٍ نبيلةٍ هي التّضامنُ. فالنّشْءُ الّذي أُجبِرُه اليومَ على "التّبرّع" بِما لِي مِن سُلطةٍ عليه هو غدًا رقمٌ خاسِرٌ مِن قائمةِ المنتجِين المتبرِّعين. نتفهّمُ أنّ المسؤولَ الصّغيرَ مُضطرّ إلى تبْيِيضِ وجهِه أمام المسؤولِ الأقوَى مِنه، وأنّ هذا الأخيرَ يضغطُ علَى مَن دُونَه مرتبةً كي يُبيِّضَ وجهَه هو أيضا في حضْرةِ مسؤولٍ أعتَى مِنه... وهكذا دواليْك. يتفانَى بعضُ المسؤولين إذن في تَلميعِ صُورتِهم، وعلى كاهلِ المواطِن البسيطِ الكادِحِ المغلوبِ على أمرِه تقَعُ مسؤوليّةُ تبيِيضِ[2] الأيادِي. وإنِ امْتنعَ المواطنُ الصّغيرُ أوِ الكبيرُ عنْ تلبيةِ النّداءِ فليسَ لأنّا أقلّ إنسانيّةً مِن باقِي الشّعوبِ. إنّ الخطأ كامِنٌ في آليّات التّأسيسِ لقِيمِ المواطَنةِ والتّبرّعُ مِنها- لا في المواطن المجبر على صيانةِ "كَراسٍ" متآكلة الأضلاعِ!
     يُتّهمُ المدرِّسُ الّذي يُحاولُ التّثبّتَ مِن وُصولِ مطلبِ نُقلتِه إلى الوزارة بأنّه يشكِّكُ في أمانةِ الإدراة. فإنْ توفّرتْ أقوَى البراهينِ على أنّه لا يمكنُ التّشكيكُ في وجودِ أمانةٍ لا وجودَ لها أصلاً، يُطالَبُ باحترامِ التّسلسلِ الإداريّ. وهو مبدأ يَعزِلُ الموظّفَ عن مُشغّلِه ويباعدُ الهوّةَ بينهما ويزيدُ المظالِمَ الّتي يُكابدُها المدرِّسون "المغضوبُ عليهم" لأسبابٍ "لامهنيّةٍ" غالبا.
     يُضطرّ بعضُ المدرِّسين الأكْفاءِ إلى "خِيانةِ" الأمانةِ التّربويّةِ لأنّ تفانِيهم في عملِهم ينقلبُ عليْهم وبَالا. إذ يُحرَمون مِن حقِّ النّقلة بالحيلِ القانونيّة العجيبة، كأنْ يَدّعِيَ المديرُ المباشرُ أنّ المؤسّسةَ في حاجةٍ إليهم، أو يُمنَعون مِن نيل مطالبِ النُّقل، أو تُصادَر مطالِبُهم مِن إحدى الإداراتِ المتسلسِلةِ. فيعوذون بِحيلٍ قانونيّةٍ مضادّةٍ تجعل بقاءهم شرّا من رحيلهم. في مثلِ هذه الحالةِ يستحيل تبريرُ سلُوكهم لأنّه يناقضُ أخلاقَ المهنةِ، وتستحيل في الآنِ نفسِه إدانتُه ممّن خَبِر شتّى ضروب القهرِ الإداريّ. لكنّ الثّابتَ أنّه كلّما سادَ الفراغُ القانونِيّ دفَعَ الطّرفُ الأضعفُ الثّمنَ.
   لا عيب البتّة في أنْ نُشكّكَ في أمانةِ الإدارةِ. فلا شيءَ يُطوِّرُ أداءَها كالتّشكيكِ فيها ومراقبتِها ومحاسبتِها؟ ثمّ إنّها لم تكن أبدا معصُومةً مِن الخطإ، ولن تكون.
   لِمَ يتبجّحُ التّونسيُّ بالقربِ الحقيقيِّ أو الوهمِيِّ مِن ذوِي السّلطان؟ لِمَ يستهينُ بِمَن يلجأُ إلى المؤسّساتِ القانونيّة لاسترجاعِ حقِّه؟ لِمَ يستحِي مِن أداءِ واجبِه المهنِيّ كما لو أنّه يرتكبُ جُرما أخلاقيّا؟ الأسبابُ عديدةٌ ومعقّدةٌ تراكمتْ تاريخيّا عبرَ قرونٍ مِن العُقمِ الحضاريِّ العربِيّ. وأرجِّحُ أنّ ضعفَ الإيمانِ بسُلطةِ القانون أحدُ الأسبابِ الرّئيسَةِ. يُعَدّ هذا الضّعفُ من نتائجِ ضحالةِ قِيمِ المواطَنةِ. لِذا تطرقُ آذانَنا باستمرارٍ عباراتٌ أخرَى مُوازيةٌ، مِن قبيلِ: "حسْبِيَ الله ونِعمَ الوكِيلُ" و "مَوْلاَهَا رَبِّي" و "آخِرُها مَوْتٌ"... غادرتْ سياقَها الدّينِيّ العقائديّ لِتحُطّ الرِّحالَ في حقلٍ دلالِيّ مدارُه اليأسُ والتّسليمُ والتّواكلُ والعبثيّةُ وإدانةُ الآخرِ... فقائلُها لا يُعبِّرُ عن أيّ إحساسٍ بالمسؤوليّةِ على ما يَحدثُ. ويكتفِي بتقدِيم نفسِه في صورةِ الضّحيّةِ الواقعةِ في حيّزِ المفعوليّة. والحالُ أنّ المستهِينَ بحقِّه والمستجِيرَ بالأقوَى على الأضعفِ دون وجْهِ حقٍّ صِنوَان، هما وجْهان لِنفسِ العُملةِ الزّائفةِ أيْ لنفسِ "المواطنِ" الّذي لا يملكُ مِن شروطِ المواطَنةِ إلاّ الانتماءَ الجغرافيّ.
    هكذا ينسَى المواطنُ أنّه مسؤولٌ على مواطَنتِه بقدْرِ ما يتناسَى المسؤولُ أنّه مواطنٌ. ونظلّ ندورُ في حلقةٍ مفرَغةٍ يأكلُ بعضُنا حقّ بعضٍ، وقد يأكلُ بعضُنا بعضًا. ولأنّ الموظّفَ المسؤولَ أوسعُ نفُوذا وأقدرُ على الفِعلِ فإنّ ما يقعُ على عاتقِه من واجباتٍ أوفر ممّا يُطالَب به المواطنُ العاديّ. قياسا على اقتراحِ الصّحفيّ لطفي العماري[3] أنْ يُصنعَ كرسيّ مديرِ أيّام قرطاج المسرحيّة مِن مادّة "التّيفال" حتّى لا يلتصقَ به مَن يجلسُ عليه، أقترحُ أن نُرصّعَ كراسِي المسؤولين بإبرِ الوخْزِ الصّينيّة. فنضرِبُ على الأقلّ ثلاثةَ عصافيرَ بحجرٍ واحدٍ - أعني بإبرةٍ واحدةٍ-: نُعالج أدواءَهم دونَ الخوفِ عليهم مِن المضاعَفاتِ الجانبيّةِ للدّواء أوّلا، نحمِيهم مِن أنفسِهم بأنْ نَمنعَ عنهم غرورَ السّلطانِ ثانيا، نُذكِّرُهم في كلّ حينٍ بواجباتِهم نحوَ البلادِ والعِبادِ ثالثا. وإنْ طارتْ باقِي العصافير فلا ضَيْرَ. إنّ الزّمنَ كفِيلٌ بصيْدِها في مُقبِل العُقودِ.
    بين القانونِ والمواطَنةِ مِن التّلازُم ما بين الوجهِ والقَفا: فوجودُ القانونِ نصّا يحقّق أرضيّةً دُنيا للمواطَنةِ، لِنقُلْ إنّه هيكلُها العظميّ. ووجودُ القانونِ عملاً يكسُو هيكلَ المواطَنة لحمًا ودمًا. أمّا أنْ يكونَ القانونُ موضوعَ جدَلٍ ومُراجعةٍ وتنقيحٍ فهذا ما يُكسِبُ ذاك الجسدَ الحيّ رُوحا تتفاعل مع محيطها ناقِدةً ومنقُودةً.  

          
      
                     


- حمّورابي: [1792 – 1750 ق.م] أشهر ملوك الدّولة البابليّة. قضَى على الإمارات الصغيرة و حقّق وَحدة ما بين النّهرين. اشتهر بشرائعه الإداريّة و الاجتماعيّة. المنجد في اللّغة و الأعلام، ط 41، 2005، دار المشرق، بيروت.
2 - يُقال: بيّضْتُ الإناءَ إذا فرّغتُه و بيّضْتُه إذا ملأتُه. و هو من الأضدادِ. لسان العرب، ابن منظور, المجلد 1، ط 1، دار صادر، بيروت، 1997. لا يخفى عليكم أنّنا نقصِدُ المعنى الثاني.
3قدّم هذا الاقتراحَ في إحدى حلقات برنامج "بلا مجاملة" الذي تبثّه قناة "حنّبعل". وقد نسيتُ تاريخَ البث.



فوزيّة الشّـطّي


تونس: 2009.12.29

معا لرفع الأمّـيّة

معًا لرفع الأمّـيّة
  غصّت شوارعُنا ووسائلُ إعلامنا بلوحات إشهاريّة وتوعويّة لغتُها الدّارجة دون غيرها. «رافعُو لواء الأميّة الجدد» هم السّاسةُ أوّلا وأعضاءُ ما يُسمّى «الهيئة العليا لحماية أهداف الثّورة» ثانيا وما يُرْوَى أنّه «المجلسُ الوطنيّ التّأسيسيّ» ثالثا وما ينصّ القانونُ على أنّها وسائلُ الإعلام «العموميّ الوطنيّ» أخيرا لا آخرا...
  السّاسةُ المتنافسون على العرش المغري الّذي يُسيل اللّعاب، نادرا ما تردعهم الضّوابطُ الأخلاقيّة والثّقافيّة والإنسانيّة. الغايةُ عندهم، كما نعلم،  تبرّر الوسيلةَ. ولو كان القضاءُ على العربيّة الفصحى يعبّد لهم طريقَ النّصر لانْهالوا عليها بالفؤوس وأودعوها في الرّموس حيّةً نازفة دون أن يرفّ لهم جفنٌ. حتّى الّذين أدانوا سياسةَ التّجهيل والانبتات الّتي كرّسها النّظامُ السّابق تكريسا مقصودا مُـمنهَجا حاصِدا ثمارها مُكتوِيا بنارها، ها هم يسيرون اليومَ على خطاه ويرتكبون أشنعَ خطاياه. بخيار الأمّيّةِ هذا يحقّقون غاياتٍ أربعا على الأقلّ: يشترون صوتَ النّاخب الأميّ البسيط لأنّه الفريسةُ الأسهل، أوّلا. يُطمئنون القوى الغربيّةَ المتربّصة بثورةٍ ترميمُ الانتماء المتداعِي للسّقوط هو أوكدُ مهامّها، ثانيا. يغازلون الصّهيونيّةَ العالميّة الطّامحة دوما إلى قطع لساننا الجمعيّ، ثالثا. يكشفون خواءَ برامجهم الانتخابيّة وضحالةَ مستواهم الفكريّ والثّقافي، رابعا. والغايةُ الأخيرة هي نقطةُ الضّوء الوحيدة فيما يفعلون!
أمّا «حُماة أهداف الثّورة» فقد اختاروا الدّارجةَ للحثّ على التّسجيل لانتخابات المجلس التّأسيسيّ ولنشر قدرٍ من الثّقافة السّياسيّة والقانونيّة في نصوص فقيرةِ الأسلوب هزيلةِ الدّلالة سقيمةِ الإيحاء. هؤلاء لا عذر لهم البتّةَ. فالأميّ الّذي لا يُحسن القراءة والكتابة هو عمليّا في غِنًى عن اللّوحات التّوعويّة المكتوبة لأنّها لن تفيده في شيء. والمتعلّمُ الّذي درس الفصحى لن يحتاج نصّا مكتوبا بالدّارجة ليفهم مضمونَ الخطاب. إذن لِم الإصرارُ على ما لا يُحتاج إليه؟! لِم التّفاني حدَّ الهوَس في ترويج الجهل والميوعة والانبتات؟! ألأنّ هؤلاء وأولئك وجهان لعملة واحدة؟! أم لأنّ التّحالف مع «الوصيّ الخارجيّ» أوْلَـى من الولاء للهمّ الوطنيّ؟! لِم لم يفكّر «رافعُو لواء الأميّة الجدد» في الاستعانة بأهل الاختصاص ليصوغوا نصوصا عربيّة فصيحة تليق بشعب راهن على محو الأمّيّة منذ فجر الاستقلال وتشرّف باكورةَ «الرّبيع العربيّ»؟! أيكون جنونُ العظمة هو المانع بعد أن أضحى الثّائرون أضيعَ من الأيتام على مآدب اللّئام؟! أيدفعوننا دفعا إلى الأسى على فصاحةِ إمبراطور دولة الفساد والاستبداد «زين العابدين بن عليّ» والبكاءِ على «أطلاله وأطلالها» الشّاخصة كالبنيان المرصوص؟! إنْ كان الجواب بالإيجاب سأعتبرُ هذا «الانفلات اللّغويّ» أحدَ مشتقّات الانفلات الأمنيّ المبرمَج الّذي به يُساوَم التّونسيُّ على مُواطَنته وبه تُبتزّ منه ثورتُه.  

فوزيّة الشّـطّي
تونس: 2011.08.09



مَأسَسةُ الفسادِ: المدرسةُ نموذجا

                                              
مَأسَسةُ الفسادِ: المدرسةُ نَموذَجا

    حسْب بعض الإحصاءات المتفائلة، يلتهم الفسادُ ثلثَ النّاتج القومي العربيّ. وكي يكتسبَ الفسادُ قدرة على التهام ما حوله، يحتاج مَأسسةً تقتضي بدورها العملَ الجماعيّ المنظّم، لكن في غير الصّالح العامّ. فيُضفي الإجماعُ "شرعيّة" على السّلوك الفاسد قِيميّا وقانونيّا. هذه الشّرعيّة، حتّى وهي ضمنيّة، تَهبُ الفسادَ سلطةً قاهرة يمارس بها طقوسه في ظلام اللّيل والنّهار. لنا في المجال التّربويّ شواهدُ جمّة.
    أقصَى الأستاذُ تلميذا من قاعة الدّرس بسببِ الوقاحة والعنف والتّطاول على حرمة القسم ومحاولة الغشّ أثناء إنجاز الفرض. عمّر الأستاذُ الخبيرُ بالكيْد الإداريّ تقريرَ الإقصاء كما تعوّد أن يفعل. وتعهّد بكتابة تقرير مفصّل بمقتضاه يحالُ التّلميذُ على "مجلس التّربية" وفقا للمناشير الوزاريّة في هذا الشّأن.
   عُقد اجتماعٌ طارئ بين مديرٍ اعتادَ أن يبيع ذمّتَه بأرخصِ الأثمان وبيْن وليّ ألِف أن يشتريَ شهادات تفوّق ابنه بما استطاع إليه سبيلا. توصّل الجانبان المتحالِفان إلى اعتمادِ خطّة فيها مِن الدّهاء الإداريّ بقدْر ما فيها من الغباء القانونيّ. أسبابُهما مختلفة. والغايةُ واحدة: لَـيُّ عُنقِ الحقيقة.
    أوّلا: يدّعي الولـيُّ أنّ ابنَه تعرّض بعد إقصائه مباشرةً إلى اعتداءٍ خطير لأنّ الأستاذَ ألقى به في الشّارع بدل تركِه في عُهْدة الإدارة. لقد اعترضَ سبيلَه صُعْلوكان وحاولا تحويلَ وِجْهته قسْرا و«شلّطا» وجهَه بآلة حادّة. في غمْرة الأحداثِ لم يسجِّل الوَليُّ محضرا بمركزِ الشّرطة للإعلام بهذا "الاعتداءِ الخطير" ولم يُحضِرْ شهادةً طبيّة تثبتُ الضّررَ الحاصِل. وعن حُسن نيّةٍ التأم الجرحُ العميق في لمحِ البصر.
    ثانيا: تُنكر الإدارةُ وجودَ تقرير الإقصاء حتّى يُتّهم الأستاذُ بارتكابِ خطإ قانونيّ فادِح عرّض حياةَ المتعلّم البريء إلى الخطر. تطوّع أعوانُ المدير للإدلاءِ بشهادةِ الزّور جماعات وَوِحدانا. فانتشَى المديرُ الحديثُ العهدِ بالمنصب. وهيّأ النّفسَ الأمّارةَ بالسّوءِ لجنْـي المكاسِب. أقلّها أنْ يجبرَ الأستاذَ على إلغاء العُقوبة كسْبا لودّ الأولياء المتنفّذين ذوِي البَاع والذّراع، أنْ يجرّه إلى فخّ الدرّوس الخصُوصيّة التّي ستُثرِي ميزانيّةَ المؤسّسة بمال وفير لن يُعرف بابُ دخوله ولا شبّاكُ خروجه، أنْ يدفعَه إلى تضْخيمِ الأعداد الكارثيّة، وهو ما يُسمّى في لغة المؤسّستين الإداريّة والاجتماعيّة "إعانة". يريدُ المديرُ المتربّعُ على عرشِ المسؤوليّة أن يفاخرَ بمعدّلاتٍ وهميّة لا تعكس المستوى الفعليَّ للتّلاميذ حتّى يقوّيَ رصيده عند بعض رؤسائه. وتلك سياسةٌ شائعة في أغلب مدارسنا شُيوعَ العنف والعَبث والأميّة. فلا تنسوْا أنّنا في بلدٍ مهْووس بالأرقام الّتي تقول كلَّ شيء عدا الحقيقةَ.
    أقبل الولـيُّ مُهدِّدا متوعِّدا كالمعرَبد في الطّريقِ العامّ، وانتصبَ المديرُ نافشا ريشَه مُبارِكا كلَّ تفاصيل الاعتداء عازِما على مَزيدِ التّحالف حتّى يتوبَ المارقُ ويُلقيَ سِلاحَه. كان ذلك درْسا في التّعاونِ المثمِر بين مؤسّسة اجتماعيّة ضيّعتْ بوْصلةَ القِيم جميعِها وبين مؤسّسة تربويّة شارفتِ الإفلاسَ دون أن تجرؤَ على الاعترافِ بذلك.
    مِن شروطِ مأسَسة الفَساد السّكوتُ عن وجودِه وإحاطةُ إنجازاته بالصّمتِ الرّهيب وتصفيةُ أعدائه الشّواذّ بنيرانٍ صديقةٍ. إنّ المؤسّسةَ موجودةٌ، لكنْ وجودَ العدم. وهي مقيّدةٌ مبدئيّا بتُرسانة مِن القوانينِ والتّشريعات والمناشير. لكنّ واقعَ الحال يُثبت أنّ "اللاّقانون" هو صاحبُ الكلمةِ الفصْلِ في كلّ صغيرةٍ وكبيرة، إلاّ من رحِم ربُّك. لذا أرى أنّ مأسَسةَ الفساد هي الوجهُ الخلْفيّ لما يسمّيه الأستاذُ "عياض بن عاشور": «الوهْم المؤسّساتِيّ».
     بمؤسّسةٍ إداريّة كهذه سنقتحمُ غمارَ التّقدّم والنّماء والرّفاه في وضَح النّهار مِن ثُقبٍ في الجدار. بمعاولِ إدارة كهذه سنضعُ حجرَ الأساسِ لمدرسة الغد، ذاك الغدُ الّذي قال عنه الشّاعرُ الغزِل المرِح "عمر بن أبي ربيعة": «كلّما قُلتُ متَى مِيعادُنا ... ضحِكتْ هِندٌ وقالتْ: بعدَ غدْ».

فوزيّــة الشّــطّي
تونس: 2010.12.08


سيّدي الرّئيس الأسبق

سيّدي الرّئيس الأسبق
[نُشر في جريدة "الموقف": 2011.04.09]
كذا أسمّيكَ لأنّي ما اعتدتُ دوسَ الجثث ولا أطربنِي غرسُ خنجري العفيف في من أثخنته الجراحُ. لغتِي أنوف على قسوتها. ولغتك، كما لا شكّ تدري، قاسية بلا أنفة.
   بعد أن نفضتَ عنك غبار السّفر وأنختَ بعيرك المجنِّح أناشدُك أن تنظرَ في المرايا المعتِمة مليّا. علّك ترى ما عمِيتْ عنه بصيرتُك قبلا. علّ ضميرَك الميْتَ ينبعث من رماده. فمهما أنكرتُ من قولك وفعلك لن أنكر أنّك صانعُ «المعجزة التّونسيّة».
   لن أهضمكَ حقَّك إذا ادّعيتُ أنّك لم تسمعْ باستراحة المحارب. لقد أفنيتَ عمرك في خدمتنا. وقد رأى اللّه أعمالَك، وشهدها رسولُه، واصطلَى المؤمنون بسعيرِها. فتّشتَ جيوبَنا وأحلامنا. قاضيتَ النّوايا الحسنةَ والمبيّتة. صادرتَ الأملَ من قلوبنا. وأقفلتَ أبوابه في وجوهنا بمراسيمَ عليّة. ثمّ شرعتَ بالعصا تسوس مَن عصى مِن رعيّة القطيع. فلا يشتكي الرّاعِي إلاّ من تُخمة، لكنْ يجوع الذّئبُ، وتهزل القطعانُ.
   ما كنتَ تستفيق من سكرةِ السّلطان حتّى تقعَ في شرَك الغنائم تنهب وتكدِّس وتكنِز كأنّك تعيش أبدا. ما كنتَ تغفلُ عن غنيمة إلاّ استبدّتْ بك عقدةُ الزّعامة تقطع كلّ رأس أينعَ أو كاد وتُنشِّف عروقَه قطرة قطرة. فإذا انتفختَ مالا وسلطانا تملّككَ جنونُ العظمة يُدمّر البقيّةَ الباقية فيك من نَحيزةِ البشر. وحدَه رأسُك المرفوع في هذي الرّبوعِ كأنّك لا تَهرم لا تَعتلّ لا تموت. وحدكَ الفاتقُ الرّاتق الذي يُفصّل المصائرَ على المقاس. وحدكَ الموجودُ بالقوّة وبالفعل. كم كنتَ وحدكَ، يا رئيس!
   هل أدركتَ طعمَ الرّعب الذي ألقمتَنا إيّاه؟ هل أرِقتَ كمدا أو قهرا أو رُهابا من ظلمٍ لا ينقشع وظلامٍ أرخى علينا سدولَه بشتّى الهموم؟ يا مَن أبكيتَ شعبَك دما، أدمِعتْ عيناك هنا أو هناك؟ يا مَن علقتَ العرشَ حدّ الغِواية هل آمنتَ أنّ مِن الحبّ ما قتل؟ وبئس شهيدُ الحبّ أنتَ.
   لكَم أشفِق عليك من دعواتِ الثّكالى واليتامى والجياع. لكَم أخشَى على نومك آهاتِ المعذّبين حتّى الموت. إنْ حُوصِر مرقدُك يوما فلا تجزع. هي أرواحُهم المعتصِمة في الميدان ترفع شعارا أوْحدَ: «اُسقوني دمَ قاتلي». فإن قيل: «اِرحموا عزيزَ قوم ذلّ»، قالت: «ما عزّ أحدٌ في ذلّة قومه».
   فهِمناك بلا حزمٍ على مهَل. فحزمتَ ما تيسّر من حقائبك على عَجل. غالطكَ اللّصوصُ الأقربون. فأعدْنا إليك رشدَك كاملا لا نقصَ فيه. لويتَ أعناقنا بيدٍ من حديد. وطفقتَ تعُدّ أنفاسنا متلذّذا باختناقنا الجماعيّ. بحرارة الرّوح انتفضَ الغرقى. وأعدّوا لك ساعةَ الرّحيل إلى العدم: «قُم، ودّعِ اليومَ الأخير». أريتنا النّجومَ في الهواجر. فأريناك فجرَ المحارق.  
   سيدي الرّئيس الأسبق،
لَكم أرثِي لنا منك، وأرثي لكَ مِن نفسك، وأرثي لرهْطِك مِن لعنة التّاريخ.

فوزيّة الشّـطّي
تونس: 2011.04.01



شعر: أنا ما طلبتُ انتحاري.



|أَنَا مَا طَلَبْتُ انْتِحَارِي|
نُشِرت في موقع 'ديوان العرب':
أَنَا مَا طَلَبْتُ انْدِحَارِي
وَلَكِنَّهُ الْيُتْمُ يَغْتَالُ طِفْلَهْ
وَمَوْجُ بِـحَارِي يُطَلِّقُ رَحْلَهْ
وَرُوحُ شَبَابِي يَنُوءُ بِأَحْمَالِ ظِلِّهْ
s  s  s
أَنَا مَا طَلَبْتُ انْهِيَارِي
وَلَكِنَّهُ الْكَوْنُ، أَنَّى يَشِدُّ، يَضِلُّ الطَّرِيقْ
وَذَا الْأُفْقُ صَوْبِي يَغُورُ وَحِذْوِي يَضِيقْ
وَحَرْفِي يَكِلُّ مَدَاهُ كَنَوْحِ غَرِيقْ
s  s  s
أَنَا مَا طَلَبْتُ انْتِحَارِي
وَلَكِنَّها الرُّوحُ مِنِّي تُسَلُّ
وَصَوْتِي عَنِ الشَّدْوِ قَسْرًا يُشَلُّ
وَصَرْحِي بِأَيْدِي الْبُنَاةِ يُفَلُّ.
|فوزيّة الشّطّي|
تونس: 1998.12.09
  
مشهدٌ ربيعيّ تونسيّ