إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2011-08-23

مقال: حتّى لا تأكلَ الثّورةُ أبناءَها


حتّى لا تأكل الثّورةُ أبناءها
[نُشر في جريدة 'الموقف': 2011.04.30]
    
     كثيرا ما التهمت الثّوراتُ باسم العدالة الثوريّة الفوريّة أعداءَها ومَن اُشتبِه في عداوته إيّاها مانحةً بالمقابل شهائدَ الشّرعيّة الثّوريّة لمستحقّيها في طقوس أشبه ما يكون بكهنة القرون الوسطى الّذين باعوا، بلا رخصة، صكوكَ الغفران للأكثر ولاء وطاعة وسخاء مع خُدّام الرّبّ. لكن ليس من النّادر أن تأكل الثّورة أبناءها الّذين ارتوتْ بدمهم واغتذتْ من بَأسهم وبُؤسهم.
     إذا قادتْ زعامةٌ سياسية مّا الثّورة حتّى النّصر تمسّكتْ بالحقّ اللاّمتناهي في الجزاءِ على المعجزة الّتي حقّقتْها وفي الوصايةِ على مرحلة مابعد الثّورة وصاية اللّئام على مال الأيتام. وإن كانت منظومةٌ إيديولوجيّة مّا هي المحرّكة للجماهير والمتحكّمة في المسار الاحتجاجي عُدّت الثّورة مجرّدَ تطبيق عمليّ للنّظريّة الأمّ. تلك الأمّ الحاضنة في البدء تستحجرُ شيئا فشيئا لتغدو سجّانا وجلاّدا ومفتيا يُظهر الحقّ و يُزهِق الباطل. يهبها النّفوذُ السّياسيّ إيمانا بالعِصمة الأبديّة. فتنغلق حتّى تتضخّم و تتآكل من الدّاخل و تفقد صلاتها بالواقع الحيّ. هذا الأخيرُ علّمه التّاريخُ أن يتسلّح بالقانون الطّبيعيّ "حبِّ البقاء" كي يُفلت مِن "الحرس الثّوريّ" كلّما شدّد قبضتَه عليه.     
   نحن في غنًى عن هذا وذاك لأنّ ثورتنا صنعها القهرُ أكثر ممّا أنتجها الوعيُ. تراكمت الجرائمُ المعلَنة والخفيّة حتّى فاضت صدورُ قوم ما كان عندهم شيءٌ يخشوْن عليه. فكشفوها عارية في وجه «الرّصاص المصبوب» على النّمط الصّهيونيّ. إنّ تراكمَ فائض الظّلم مُؤذِن بخراب الأنظمة: ذاك لبُّ الحكاية. وليس في هذه الخصوصيّة ما يُهين. إنّما هي حجّة على أنّ الشّعوب العربيّة اُضطرّت إلى بلوغ سنّ الرّشد النّفسيّ والاجتماعيّ ربّما قبل الأوان بفضل ما ابتُليت به من حكّام هم دون سنّ الرّشد السّياسيّ بكثير. غيابُ الزّعامة السّياسيّة يدفع عنّا خطرَ شخصنة الثّورة. وغيابُ الإطار الإيديولوجيّ يقينا شرَّ الإقامة الجبريّة في قفص رمزيّ خانق. لكن يجبُ الاعتراف أنّه لو حضر أحدُهما أو كلاهما لَكان حجمُ الفوضى أقلّ، دون أن ننكر أنّ مساحة الحريّة كانت ستكون أقلّ هي أيضا. لذا فقسمٌ هامّ من الانفلات الحاصل منذ بلوغ الثّورة أوجَها في "14 جانفي 2011" إلى اليوم هو ضريبة على الدّخل الوطنيّ المأمَّل من الحريّة والكرامة. من النّوافل القولُ أنّ قسما آخر منه تُنتجه قوى الرّدّة المستميتةُ في الدّفاع عن مناطق نفوذها الموجودِ منها والمنشود والمجرمون المرتزقةُ الّذين يجنون من مصائب القوم فوائد لا يُعدّ عديـدُها.
   الإيمانُ بحتميّة الرّجّات الارتداديّة إثر كلِّ ثورة وبفوائدها الجمّة في إعادة التّوازن المرتبك المختلّ يسهّل علينا التّأقلمَ مع الوضع المنفلت المأزوم. النّزعةُ المطلبيّة، على مفارقتها للهمّ الجماعيّ، تكشف وعيا شقيّا بضآلة قيم المواطنة. ظاهرةُ «اِرحلْ»، رغم طابعها الثّأريّ المتشفّي أحيانا، أعادت الثّقةَ في قدرتنا على الرّفض. وهي قدرة شكّك المنظّرون لفكرة «الاستثناء العربيّ» في وجودها الفطريّ فينا. التّطاولُ على القوانين المنظّمة للحياة اليوميّة، وأجلاها قانون المرور، يفضح ضعفَنا الفادح في مادّة التّحضّر ببُعديها الأخلاقيّ والفكريّ. أمّا الصّدامات الجهويّة والقبليّة فقد استعرضتْ عضلاتها الماردة أمام وطنيّة خجول عطّل الاستبدادُ المافيويّ نموّها عن سابق إصرار وترصّد. ما كان بالإمكان التّحديقُ مليّا في عيوبنا لولا الثّورة. ولن يكون باستطاعتنا التّأسيسُ لما بعد الثّورة قبل تلميع مرايا الذّات ولو بمجرّد الاعتراف الشّجاع.
   من السّذاجة أن نتوقّع التزامَ السّاسة بكلّ أهداف الثّورة التزاما طوعيّا نهائيّا حتّى لو أقسموا بأغلظ الأيمان على صدق قولهم و إخلاص عملهم. إنّ وجود السّياسيّ مرتهن بصلابة العصا. إن كان في موقع القوّة ضربَنا بعصا البوليس السّياسيّ وعصا الشّرعيّة القانونيّة وعصا الحزب الرّاكض وحيدا في الميدان. وإن كان في موقع الضّعف اِحتاج أن نُشبعه ضربا بعصا الرّقابة المدنيّة كلّما راوغ أو ماطل أو تعلّل. تواصلُ ضغط الشّارع بشكل سلميّ لا يعطّل الحركة أو العمل هو السّبيلُ لتشكّل الرّأي العامّ التّونسيّ الّذي لم يحظ قبلا بفرصة أفضل للولادة. ولأنّنا حُرمنا حقَّ التّعبير طويلا سيحقُّ لنا أن نرتكب أخطاء المتعلّمين الصّغار في حضانة الدّيموقراطيّة. وقديما قالت العرب: «من أجل عين ألفُ عين تُكرم».  
   مِنْ موقعي البسيط أطالب مَن تسمّتْ «النّخبة المثقّفة» بالاعتذار العلنيّ للشّعب عن صمتها الجبان، عن تحالفها اللاّمشروط مع الطّغيان، عن انخراطها في منظومة الفساد انخراطَ المستهلك النّهِم و المنتج الهمام. هذه الفئةُ، إلاّ من رحم ربُّك، انتشت بأبراجها العاجيّة مصدِّقة أنّ الأرض لا تدور إلاّ حولها وبفضلها. وتغطرستْ بالرّضا الأميريّ عليها. ونكّلتْ بأعداء الصّنعة مِمّن غرّدوا خارج السّرب المدجَّن. فأحرجوا هيبتها. و زعزعوا كيانها الهشّ. بفعل الصّدمة تراجعت مهرِّجةُ السّلطان ناظرةً من وراء حجاب. وإذ تعقّد الوضعُ بفرار «أولياء النّعمة» أمعنتْ في القهقرى. كأنّها لا تمتُّ إلى هذي البلاد بصلة. علينا أن نُحاسب «النّخبةَ المثقّفة» على ادّعاء ما ليس فيها، على استقالتها مِن أوكد مهّامها، على قطيعتها المرَضيّة مع الحراك الشّعبيّ. نُحاسبها بإخضاعها للدّراسات النّفسيّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة لكونها ظاهرة غير صحيّة يجب تحصينُ البلاد من عدوى وبائِها. إنّها لا تفضُل في شيء «العائلةَ المالكة» ذات النّهَم الاستثنائيّ البشِع.
   تنوّع أداءُ يتامى "التّجمّع الدّستوريّ الدّيموقراطيّ" بعد الفاجعة. لاذ الكثيرون بالصّمت التّكتيكيّ على أمل أن تمرّ العاصفةُ بأقلّ ما يمكن من الخسائر. لعب البعضُ دور الضّحيّة الّتي اُقتيدتْ إلى الجحيم التّجمّعيّ بالسّلاسل. نبش البعضُ الآخر الماضي بحثا عن قناع أخفّ وزرا. لبس الآخرون جلباب الثّورة مسبِّحين بحمدها تماما كما هلّلوا "لصانع التّغيير" و "للمجاهد الأكبر". أمّا المسؤولون الّذين ثبتوا بقدرة قادر في مناصبهم فقد انقسموا صنفين: أوّلهما خضع ذليلا قصير الباع و الذّراع. ثانيهما لم يصدّقْ أنّ الثّورة كانتْ عليه بردا وسلاما. لذا بمجرّد عودة الهدوء اِستأسد وتنمّر وأخرج من مخالبه ما لم يسمحْ له الوقتُ قبل الثّورة بإشهاره في وجه الشّعب الكريم. من كفر بالله قد يُخلص التّوبة متطهِّرا بدمعه. أمّا  الكفرُ بالوطن فلا يُتابُ منه. ولا تُصدّق توبةُ تائب من هؤلاء. لسنا ننظّر للإقصاء أو التّصفية. لِنقل إنّ هذي النّفوس المشوّهة تحتاج علاجا بالكيِّ آخرِ الدّواء، تعقبه فترةُ نقاهة لا تقلّ عن عقدين. عساها تنفُث سمومَ الفساد الممنهَج المبرمَج الّذي سكن منها سوادَ العين والقلب. وعسانا نقطع ما تيسّر من أيادي «الأخطبوط التّجمّعيّ» الممسِكة بتلابيبنا.
   نعم، سقط النّظامُ. لكن لم يسقط الفسادُ لأنّه تَـمأْسس حتّى أضحى دولةً داخل الدّولة على شاكلة الجريمة المنظَّمة. تفكيكُ هذه المنظومةِ المتشعّبة سيحتاج صراعا دؤوبا لا يَنِي، لا يضاهيه عسرا إلاّ صراعُنا مع ذواتنا لتأسيس مُواطَنة تكون مِنّا وفينا.
   لا خيارَ لنا، حتّى لا تأكلَ الثّورةُ أبناءها، إلاّ أن نربحَ كلّ خساراتنا.
فوزيّة الشّـطّي
تونس: 2011.04.23


هناك 3 تعليقات:

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

أراها تلتهمنا بنهم وهّابيّ شنيع....

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

هاهي الآن تلتهم أبناءَها وتُغدق النّعمَ على أعدائها...

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

أتفهّم أنّه يعزّ على اليسار أن يعترف بالدّور الأجنبيّ الحاسم في ما يُسمّى "الرّبيع العربيّ" حرصا منه على وهم النّقاء الثّوريّ (الّذي لا وجود له حتّى في الثّورة الفرنسيّة) وعلى نظرته التّأليهيّة للشّعوب عمّة وللطّبقات الكادحة خاصّة. أمّا أنا فقد اقتنعتُ بأنّ الانتفاضات (لا الثّورات) الشّعبيّة قد حدثتْ فعلا (خاصّة في تونس ومصر). لكن سرعان ما تمّ الاستيلاءُ عليها عبر تقنيات الخديعة النّفسيّة الإعلاميّة والاندساس المخابراتيّ الدّمويّ والتّحكّم عن بعد في الأحداث بشياطين الكواليس. وقد اُختير الدّواعشُ (سنّة وشيعة) لأداء الدّور التّخريبيّ الأقذر لأنّهم الأقدرُ عليه. ما كان لتلك الانتفاضات أن تثمر لكونها نشأتْ بلا فكر ثوريّ ولا ثقافة شعبيّة واسعة ولا قيادة سياسيّة صلبة. إنّما كانت صرخةَ الجياع والمعطّلين والمهمَّشين الباحثين عن لقمة العيش أوّلا وقبل كلّ شيء.