إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2011-08-23

مقال: كبشُ الفدَاء

كَبشُ الفِدَاء
نُشر في جريدة 'الموقف': 2011.06.18

     صبّ التّونسيّون الثّائرون جامَّ غضبهم على الجهاز الأمنيّ معتبِرين إيّاه يدَ القمع وبؤرتَه، محمِّلين عناصرَه ذنوب كلّ ضحايا الطّغيان. كأنْ لا مسؤولَ غيرهم على مأسسة الفساد والاستبداد. في هذا الادّعاء جزء هامّ من الحقيقة. لكنّه ليس كلَّ الحقيقة. فحجم الفساد في الجهاز الأمنيّ ليس، بأيّ حال من الأحوال، أكثرَ أو أقلّ من نظيره في التّربية أو الإعلام أو الصّحّة... المشكل أنّ عيوبَ الأمنيّين ساطعة تبهر أبصارَ المغلوبين و تعترض سبيلهم في الطّريق العامّ كما في الفضاء الحميميّ الخاصّ. عند انفجار النّقمة على الجهاز الأمنيّ تناسى القومُ كلَّ الأمنيّين الّذين دفعوا ضريبة التزامهم بشرف المهنة و بالقوانين المنظِّمة لها. حسبنا أن نحيل على التّنكيل الّذي لحق بمن اجترأ على "العائلة المالكة" أو حاشيتها الموسَّعة  والّذي بلغ أحيانا حدّ العزل مع الحرمان من حقّ التّظلّم. وربّما وصل حدَّ التّصفية الجسديّة.
    صحيح أنّ الجهاز الأمنيّ عمل في خدمة الحزب المستبِدّ بالقرارات و بالخيرات. لكن ما كان يستطيع غيرَ ذلك. وإذ زُلزلت الأرضُ من تحت أقدام "الزّعيم"  كان الأمنيّون من أوّل ضحايا "البوليس السّياسيّ" الّذي لبس لبوسَهم وأحرق مراكزهم وسيّاراتهم ونهب سلاحهم وحرّش عليهم الحشود السّاخطة. عاش بعضُهم الرّهابَ القاتلَ مع زوجه وصغاره. واختفى آخرون في عزلة المبحوث عنهم. ما حصل معهم ليس من العدالة الثّوريّة في شيء. لقد رضينا بتقديمهم "كبش فداء" يُشفي الغليلَ ولا يردّ من الحقّ  الجمْعيّ الكثيرَ أو القليل. هكذا فعل مستبِدّو القرون الوسطى لامتصاص غضب الرّعيّة : عرضوا القرابينَ البشريّة في السّاحات العامّة لتنهشهم الجماهيرُ العمياءُ البصيرةِ أو لتمتّع النّظرَ بموتهم السّاديّ البطيء الّذي هو صورة مّا من موتها.
    كلّما ِزيدت أجورُ الموظّفين كان النّاسُ يتندّرون بالقول: "أمّا أعوانُ المرور فقد وُسِّع لهم في الطّريق". في هذه السّخرية المرّة اعترافٌ بأنّ أجور هؤلاء دون ما يحفظ الكرامةَ. وفيها وعيٌ بأنّ السّلطة تتعمّد، بسياسة "فرّقْ تسُدْ"، تحريشَ هذا على ذاك: يُعطَى لعون المرور الحقُّ الضّمنيّ في الارتشاء مقابل مغفرة التّجاوزات صغيرِها وعظيمِها أو اتّهام المنضبِطين بالباطل إن لم يصطدْ أيَّ مذنب. ويُباح للمواطن أن ينقم على "جلاّده" واهبا إيّاه ما تيسّر من مال أو متاع بائعا ذمّتَه مبتاعا صمتَ الرّقيب الحسيب. تلك سلسلة من الاضطهادات يأخذُ بعضُها برقاب بعضٍ.
   بعد عقْد الصّفقة يمثّل "المواطن" دورَ الضّحيّة دون أن يقرَّ ولو لنفسه بأنّ مانحَ الرّشوة يظلّ أخلاقيّا أفسدَ من قابضها. إن أخطأ لا يقبل تحمّلَ مسؤوليّة أخطائه، وإن ظُلم لا يجرؤُ على التّظلّم. وجد الانخراطَ في منظومة الفساد أقلّ تكلفة وأخفّ وزرا. فاندسّ فيها متبرقعا أحيانا وسافرا أخرى. وهو سلوك لا يليق بمن بلغ أدنى درجات المواطَنة أو طمِح إلى بلوغها.
  من مصلحة أغلب السّاسة في الحكومة أو المعارضة أن ينتهجوا سياسةَ "كبش الفداء" مع الأمنيّين وغيرهم لأنّ أعباءَ التّمشّي القضائيّ العادل والمستقلّ ثقيلة عليهم. هؤلاء يهتفون: "ليس هذا من شأننا، فنحن مؤقّتون". وأولئك يصرخون: "هلاّ أفرغتم الكراسي، فنحن قادمون". بين تيْنك الضّفّتين يجري نهرُ المظالم هادئا مطمئنّا يحرسه الصّيّادون في الماء العكر من كلّ عين مالحة.

فوزيّة الشّـطّي
تونس: 2011.06.11 

                                                                                          


هناك تعليق واحد:

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

إلى الأمنيّين الوطنيّين الشّرفاء،
نعوّل عليكم في التّصدّي لميليشيا الأمن الموازي الّتي زرعها الحزبُ الإرهابيّ في كلّ دواليب الدّولة. نصرُنا من نصركم، وهزيمتنا من هزيمتكم.