إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2011-08-29

مقال: مِن وحْيِ المَحرقة


مِنْ وَحْيِ المِحْرَقَة
[نُشر في 'الشّعب': 2009.01.24، عدد: 1006]
سأُسْكِتُ مؤقَّتا القلبَ المعذَّب بالعجزِ عن الصّبرِ وعن الفعْل. ولْيتكلّمِ العقلُ إنِ استطاعَ أن يعقِلَ.
ما تعيشُه غزّةُ مِحْرقةٌ على النّمطِ النّازيِّ لكنْ أكثرَ دمويّةً وجُنونًا. غزّةُ غرفةُ غازٍ خانقةٌ، وإنْ بدَت متراميةَ الأطرافِ، لا ماءَ فيها لا خبزَ لا دواء... لا شيءَ عدا مصّاصِي الدِّماء!
الموقفُ العربيُّ الرسميُّ غريب عن نفسه، غريبٌ عن الجماهير غربةَ صالحٍ في ثمود، بعد قلْبِ الآية طبعا، غريبٌ عن الظّرْفِ التّاريخيّ المصيريّ غربةَ مُدمِني الحشيش ومشتقّاتِه. يخشَى وصْمةَ 'حماس' خشيةً أسْكَرتْ ضميرَه الإنسانيَّ وحسَّه السّياسيَّ حتّى الثُّمالةِ. فشرطيُّ العالَمِ يقفُ بالمرصاد لكلِّ عقوقٍ مُحتمَل، لكلِّ مَن يلوي عصا الطّاعة. بالتّوازِي مع ذلك تتفيّأُ 'النُّخبةُ' العربيّةُ في الأغلبِ الأعمِّ في ظِلالِ حكوماتِها وضَلالِها أيضا. فلا الأُولى تُسنِد ظهرَ الثانيةِ وتقوِّمُ اعوجاجَها، ولا الثانيةُ تفكُّ الخِناقَ عن الأولى لتتنفّسَا معا برِئةٍ ثالثة. جرّاءَ هذا التّحالفِ القسْريِّ نسمعُ صوتًا واحدًا كلّتْهُ الآذانُ وعافتْهُ الحناجرُ. والصّوتُ الواحدُ -لا أعْنِي الموحَّد- لا يَصنع 'كورالا' أيًّا تكنْ مساحتُه الصّوتيّةُ.
يتأتّى بعضُ الحرَجِ العربيّ الرسميّ، وهو يتعاملُ مع مِحرقةِ غزّة من العجْزِ عن 'الفصْل المنهجيّ' بين شعبٍ أعزلَ يقاوِمُ الاحتلالَ والحصارَ والإبادةَ وبين حكومةٍ إسلاميّةِ الإيديولوجيا لكنْ ديموقراطيّةِ الـمَسار [وهو أمرٌ نادرُ الحدوثِ في الإمبراطوريّات العربيّة الأبديّة!]، لأنّها وفتْ لشروطِ صناديقِ الاقتراعِ الّتي ضبطَها 'العالمُ الحرُّ المتمدّنُ'. عدمُ الفصلِ هذا يتركُ الجرائمَ ضدَّ الإنسانيةِ تمرُّ آمنةً على نفسِها شرَّ سقوطِ ورقة التُّوت. فالإعلامُ الغربيُّ الرسميُّ أغمضَ، بأعذارٍ أقبحَ من كلِّ ذنْبٍ، العينَ العمْشاءَ المُطلّةَ على تذبيحِ الفلسطينيّين، وتُحدِّقُ مليًّا عينُه الـمُنْصَبّةُ على أيِّ خدْشٍ يُصيب الورَمَ الصّهيونيّ. بل إنّ إحراقَ علَمِ 'الكيان' في إيطاليا مثلا أثناء المظاهراتِ المندِّدَةِ بالعدوانِ قد أثارَ مِن الاحتجاجِ أضعافَ ما أثارَه حرقُ الطّفولةِ الفلسطينيّة الـمُحتميةِ بالمدارس والمساجد والملاجئ الوهْميّة ومعسكرات الاعتقال.
حتّى إنّ هذا الإعلامَ اتّهمَ 'حماس' بأنّها تستخدمُ المدنيّين، والأطفالَ منهم بالأساس، دروعًا بشريّةً لِـــ 'تُتاجِر' بموتِهم وبأنّها تحتكرُ الملاجئَ الآمنةَ لنفسها. وإنْ كنّا لا نستطيعُ الجزمَ بصدقِ هذا الاتّهام أو كذبِه، فإنّنا نجزمُ بأنّ هذا الادّعاءَ مَخرجٌ مّا ربّما يخلّصُ 'دُعاةَ حقوقِ الإنسان' مِن مأزقِ انفضاحِ 'سياسة الكيْل بمكيالين' الّتي شرعَ الرّأيُ العامُّ العالميّ يتحسّسُها نسبيّا. ولوْلا استهدافُ مدارسِ الأمم المتحدة وموظّفِي فِرَق الإغاثة الدّوليّة لتواصلتِ التّعميَةُ على شاكلة «سرد أحداثِ موتٍ معلَنٍ» [عنوان إحدى أجمل روايات غابرييل غارسيا ماركيز]. إذ تُطلُّ المحرقةُ ساطعةً جليّةً «كشُرفة بيتٍ» على منْ يريدُ أنْ يراها وعلى منْ تريدُ أنْ تُرِيَه نوباتِ جُنونِها الاستعراضيّةَ.
ستظلُّ قراراتُ مجلسِ الأمن غيرَ مُلزِمة -حتّى وهي مُلزِمة- إلى أن يستويَ الجسدُ العربيُّ المهشَّم، إلى أن تتكوّنَ نخبةٌ عربيّةٌ تكونُ قوّةً ضاغِطةً محليّا وبالتّالي عالميّا، إلى أن ينشأَ وعيٌ سياسيّ يُحسنُ الفصلَ بين تحريرِ الأوطان وبين بيْعها في المزادِ سرّا أو علنا كما يحسنُ المُرافعةَ عن نفسِه في مَحاكمِ التّاريخ، إلى أن يتصالحَ الحكّامُ مع شعوبِهم في القضايا المصيريّةِ على الأقلّ، إلى أنْ نرتقيَ مِن درجةِ 'الرّعيّة' إلى مرتبة 'الـمُوَاطَنَة' الّتي فيها مِنَ جميلِ الحقوق بقدر ما فيها من الواجباتِ الثّقيلة. فمبدأُ «كما تَكونون يُوَلَّى عليْكم» ما انفكّ ساريَ المفعُول... إلى أن يتحقّقَ ذلك سنظلّ، كما كنّا وما نزالُ، أفشلَ محامين لأعدلِ قضيّة: فشِلنا قولاً وفعلاً وصَمتا. «وكلُّ سكوتٍ كلامٌ قبيح»: هكذا تكلّم 'سميح القاسم'. ومثلَه فعَل كلُّ نِسْيٍ مَنْسِيٍّ.
لِمَ يفشلُ العربُ فشلا مسترسِلا في السّياسة الخارجيّة؟ ألأنّهم يكسِرون عظامَ السّياسة الدّاخليّة ويلوُون ذراعَها القصيرةَ أصْلا؟ أم لأنّ 'السُّلطةَ' عندهم مرضٌ عُضال حارَ في شفائِه طبُّ الشّرقِ والغربِ؟ أم لأنّ حسَّهم التّجاريَّ أقوى ممّا يتحمّلُه الحقلُ السّياسيُّ؟ فكُلُّ متاعٍ لديهم مُعَدٌّ للبيع: الأرضُ كالعِرضِ والمبدأُ كالقيمةِ و'القضيّةُ'  كآبار الذّهبِ الأسودِ...؟ وبلا هوادَةٍ تعلُو في الآفاقِ الخُطَبُ العصْماءُ تبيعُ الرّيحَ للمراكبِ الهائمةِ على وجهها وتخبِطُ خبْطَ عَشْواء في متاهات 'البؤس العربيّ' وقد رسَخَ  اليقينُ بأنّها تُصيبُ مِن العدوّ مَقتلاً.
بنا حلّتِ الـمِحرقةُ كي ترتِقَ الذّاكرةَ الـمُهترِئةَ الهاربةَ من فيْضِ هزائمِها والمرتعِبةَ من هَامَةِ حقِّها القتيلِ يصرخُ  فينا: «اُسقُونِي». غزّةُ المحترِقةُ الـمُحْرِقةُ تهزأُ بنا، تصفعُ جُبنَنا، تركُلنا بالجُثَث، تُدثِّرُنا من هوْلِ الفضيحةِ المعلَنةِ. ثمّ تُنشِد مرثيّتَها - مرثيّتَنا: «كمْ كنتَ وحدكَ يا ابنَ أمِّي يا ابنَ أكثرَ من أبٍ، كمْ كنتَ وحدَك!». هكذا تكلّمَ 'محمود درويش'. ومثلَه صنعَ شهودُ الأرضِ والسّماء.
وكي لا يُـخَرِّبَ القنوطُ قلوبَنا الدّاميةَ سنظلّ نردِّدُ بالصّوتِ المرتعِشِ إيّاه: لَكَمْ أحنَى القدرُ قامتَه إكبارًا لكلِّ شعْبٍ أراد الحياةَ فأرادتْه بمِلْء فؤادِها! لَكَم استجابَ، فأجْلَى اللّيلَ وكسَّر القيُود!
فوزيّة الشّـطّي
تونـس: 2009.01.15

   
                       

                                                                   


هناك تعليق واحد:

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

لا حدَّ للمحارق الصّهيونيّة على الأرض الفلسطينيّة ما لم تنجحْ ثوراتُ الحرّيّة الكرامة الإنسانيّة والجمهوريّة المدنيّة الدّيموقراطيّة.