إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2011-08-29

مقال: أبناءُ المهْجر: بين الانغلاق والانبتات

أبناءُ الْمهجر: بين الانغلاقِ والانبتات
[نُشر في "الْموقف": 2010.06.25]

    يومَ الأحد [2010.05.09] ناقش برنامجُ [الْحَلبة L’Arena ] في قناة "راي 1" حادثةَ تغريم امرأةٍ مسلمة بخطيّة قدرُها [500 أورو] لأنّها ضُبطت في الشّارع لابسةً الْبرقعَ الّذي لا يُظهِر إلاّ عينيْها. مع أنّ الْقانونَ الإيطاليّ يمنع تجوُّلَ أيِّ إنسان مخفيِّ الْوجه. تكلّم زوجُها التّونسيّ بإيطاليّةٍ ضعيفة نيابةً عنها في نقطةِ ربط خارجيّة. وعَلّل ذلك بأنّ زوجتَه تجنَّبتْ نيابةَ نفسها خوفا من خطيّة ثانية إنْ خرجت متبرقعةً، مؤكِّدا أنّها اختارت "اللّباسَ الإسلاميّ" بمحضِ إرادتها وتمامِ اقتناعها، مدّعِيا أنّهما فوجئا بالْعقوبة لأنّهما يجهلان ذاك النصَّ الْقانونيّ الْحديث نسبيّا.
   بكثيرٍ من الْحِرفيّة استلَّ مقدِّمُ الْبرنامج من الزّوج اعترافا بأنّ زوجتَه لا تغادر البيتَ إلاّ مرّةً أسبوعيّا بصحبته لأداءِ صلاة الْجمعة في الْمسجد. بالاستدراجِ تبيَّن أنّهما يعرفان الْقانونَ الْمذكور قبل حادثة التّغريم. هذا لأنّ الزّوجَ برَّر "حبْس" زوجته بصدورِ ذاك الْقانون. عندها أدان الْمقدِّمُ استغلالَ الْقانون ذريعةً للعودة بالنّساء إلى وضعٍ قروسطيّ. انتهى النّقاشُ إلى أنّ غطاءَ الْوجه أيّا تكن مسوِّغاتُه ينفي هويّةَ الشّخص الّذي يضعُه طوعا أو كرها وأنّ "مَنْ لا وجهَ له لا وُجودَ له". فهو مجرّدُ "شبحٍ" مُخيف. رغم قسوةِ الْحصار الّذي ضَربه مقدِّمُ الْبرنامج حول الزّوجِ الْمتظلِّم-الْمُدان فقد عدَل في توزيع التّدخّلات وظلّ موضوعيّا محايِدا.
   ما يستدعي التّفكُّرَ هو تمسُّكُ الأقلّيّات الْمسلمة -الْعربيّةِ منها خاصّةً- بالْبرقعِ كما لو أنّه لواءُ الانتماءِ الأوحدُ، تعتصمُ به كأنّه الْعروةُ الْوُثقى الّتي تُثبِّت أقدامَها على رمال متحرِّكة وتُثبِت وجودَها في عالَم غريب لا هي تنتمِي إلى مجالِه الْحيويّ ولا هو ينتمِي إلى روحِها الْمهجَّرة. لأنّ الثّقافةَ العربيّة الإسلاميّة قد اهترأتْ مقوِّماتُها وتفكَّك بنيانُها غيرُ الْمرصوصِ لم يبقَ للمهاجرين مِن رموز الْهويّة إلاّ الْعاملُ الدّينِيّ. الْمعتقَدُ الّذي بَلغ أقصاه [أعني ما يُسمَّى تطرُّفا] يهَبهم إمكانيّةَ التّكتُّل للاحتماء مِن خطر "الآخرِ" الْمتحصِّنِ في أرضه الْمتحكِّمِ في رِقابهم الْمؤمنِ بتفوُّقِه الْحضاريّ وحتّى الْعرقيّ عليهم. ينتمي هذا "السّلوكُ الرّمزيُّ" إلى مجال السّياسة الْوقائيّة الّتي تَلجأ إليها الأقلّيّاتُ إنْ في بلدانها الأصليّة أو في الْمهجر. أمّا يهودُ أوروبا فأمسكُوا، بالتّوازي مع انغلاقهم الْعرقيّ والدّينِيّ والثّقافِيّ، بمخانقِ الاقتصاد هناك [كالْمصارفِ و تجارةِ الذّهب] قبل "الْمحرقة الْمزعومة" حتّى يسُدّوا نقصَ الْعدد ويُلجِموا عداءَ الْمعتقَد.
   يتبرقعُ الْمسلمُ الْمقيمُ في الْغرب [بصيغةِ الْمذكَّر أعنِي الْجنسين لأنّ الرّجلَ الّذي يُجبر امرأةً على التّبرقعِ هو مُتبرقعٌ معها: يُكفِّر عن سُفورِ وجهه بطمسِ ملامح وجهها] ليقولَ للبلد الْمُضِيف: "أنا أرفضُك بقدر ما ترفضُني"، ليُعلن عزلتَه ثأرا لنفسه مِن الإقصاء والتّهميش والتّشويه. هذا الْمسلمُ الْمتَّهم بالإرهاب إلى أن تثبُتَ براءتُه يَتمرَّد مِن وراء حِجاب. فيُطيل الْحجابُ إقامتَه في قفصِ الاتّهام.
   أضْحت الْعصبيّةُ الْعقَديّة "وطنا" دستورُه الشّريعةُ الْمسيَّسة حدَّ التُّخمة، حكّامُه الْمُفتون الّذين تنَصَّب كلٌّ منهم ناطقا رسميّا باسم الذّات الإلاهيّة أو وكيلَ أعمال "خازن الْجنان" [شخصيّةٌ قَصصيّة في "رسالة الْغفران" لأبي الْعلاء الْمعرّي]. هي عصبيّةُ مَن لا عصبيّةَ حقَّةً له، زادتْها الْغربةُ انطواءً وهشاشة وعِدائيّة.
   بالتّوازي مع ذاك اختارتْ فئةٌ مِن الْمهاجرين سياسةً وقائيّة أُخرَى. هي الانبتاتُ الصّريحُ عن الْوطن الأمّ بما يُمثِّل مِن خصائص ثقافيّة وقضايا مصيريّة وإرث حضاريّ. ولأنّ نُصرةَ الْقضيّة الْفلسطينيّة ما تزال أهمَّ دلائل الانتماء حسْب الْعربِ وأقوى أمارات التّعصّب الإرهابيّ حسْب الْغربِ، فقد أعلنتْ فئةُ الْمُنبتِّين ولاءَها الْمطلقَ "للْكيان الصّهيونيّ" وإيمانَها بشرعيّةِ وجوده وبحتميّةِ جرائمه ضدّ الإنسانيّة وانبهارَها بمعجزاتِه الاقتصاديّة والْعلميّة والسّياسيّة. هذا الْموقفُ "بيانٌ سياسيّ" يُقدِّمه الْمنبتُّون عُربُونَ وفاء وانتماء إلى عالَم يحلمون بالانخراط في نسيجه الْمغلَق دونهم، يغازلون به جماعاتِ الضّغط الصّهيونيّة [اللّوبيّات] الْمتحكِّمةِ بالْمال والإعلام في صنع الْقرار، يفاخِرون به هنا وهناك كدليلِ إثباتٍ على الْوعي السّياسيّ الْجريء وعلى الْمعرفةِ التّاريخيّة السّحيقة، يُقرُّون عبْره الْقطيعةَ مع جحافل الْمتخلِّفين الإرهابيِّين الرّاسخِي الْقَدم في ظلُمات الْقرون الْوسطى. بِهذا "الْبيان" يقولون للآخرِ الْغربيّ الْمحتقرِ شأنَهم الْمُستهينِ بإنسانيّتهم الّذي لا يكادُ ينتبهُ إلى وجودهم إلاّ ليستعيذَ بالله منهم: "نحن مثلُكم تماما. فاقبلُوا بنا بينَكم". إنْ قبِلهم فكَمواطنين مِن درجةٍ ثانية. يرتكبون كلَّ هذا باعتِداد وشراسة تطرَب لهما روحُ "تيودور هرتزل" [1860-1904] مؤسِّسِ الْحركة الصّهيونيّة الْجديدة.
   في هذا السّياق نستشهدُ بالْعبارةِ التّونسيّة السّاخرة الّتي ردَّدها الْمهاجرون الْمتبجِّحون بإقامتهم في الدّول الْغربيّة [chez nous] حتّى صارتْ تُسمِّيهم وتُكنِّيهم. إنّها، على سذاجتها، خطابٌ رمزيّ مزدوجُ الدّلالة يُعلنُه الْمنبتُّون الْعائدون إلى وطنٍ - مَصيفٍ: "نحن لسْنا منكم. نحن مِن هناك، مِن بلدان التّفوُّق والْهيْمنة والْمدَنيّة الْحديثة". فيجيبُ السّاخرون: "نحن نتبَّرأ منكم كما تبرّأتُم منّا ونُقصِيكم بقدر ما أقصيتُم أنفسَكم". 
   كثيرا ما يكون تضخُّمُ الأنا الّذي يُبديه الْمنبتُّون ردَّ فعل مرَضيّ ضدَّ ما كابدوا هناك مِن قهْر يصِل حدَّ الْعنصريّة الْمتوحِّشة. ويكون أحيانا "ضربةً وقائيّة" تُلزم "أبناءَ الْبلد" حدودَهم كلّما شكَّكوا في الْقفزةِ النّوعيّة الّتي حقّقَها الْهابطون مِن الْبرج الْعاجيّ. هذا لأنّ الضِّيقَ بالانتماء السّابق والْعجزَ عن الْفوز بالانتماء الْوافد يُفقِدان الْمهاجرَ الْمُنبتّ توازنَه حتّى إنّه يصيرُ عدوّا لدُودا للعربيّ الْمُنتمي الْملتزِم بقضاياه الْوطنيّة والْقوميّة والإنسانيّة [لا إنسانيّةَ إلاّ ما قرّره السّيدُ الْغربيّ]. يَستميتُ في جرِّه إلى فردوس الانبتات: "يجبُ أن أُقنعَك بما "اقتنعتُ" به حتّى يرتاحَ ضميري الْمعذَّبُ ببقيّةِ انتماء". هذا الالتزامُ يرُجُّ كينونتَه الْممزَّقة ويخِزُ توازنَه الْمختلّ.   
   ردُّ الْفعل الانفعاليّ تجاهَ الْمنبتِّين هو الاحتقارُ والتّخوين. لكنْ بالتّفكير العقلانيّ نستطيع تبيُّنَ محنةِ الانتماء الّتي يُعانونها: إنّهم لَمّا يستفيقُوا مِن "صدمة الْحداثة" لأنّها تصفعُهم على الْخدَّيْن وتصفعُنا على خدٍّ وحيد. يُظهِر الاحتفاءُ الشّعبيّ بهم كم إنّ الْمغلوبَ مهووسٌ بتقليد غالِبه هوسًا يفوقُ حقدَه على ماضيه الاستعماريّ الْبشِع. يُسقِط مجتمعُنا "الْمحافِظ" عن الْمهاجرين آثامَهم السّابقة ويمنحُهم صكَّ الْغفران ما دام الْغربُ استضافهم على أرضه ولو في سراديب لا يبلُغها الْهواءُ ولا الشّمس. 
   هؤلاء الآثِمون في حقِّ أمّتِهم يقْوى انبتاتُهم بقدر ما تتعمّقُ رِدّتُنا الْحضاريّة. وأولئك الْمعتصِمون بالْبرقع دون سواه تنمو قطيعتُهم مع الآخر على قدر اتّساعِ الهوّة بيننا وبين ذواتِنا.
فوزيّة الشّطّي
تونس: 2010.06.03




ليست هناك تعليقات: