إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2011-12-19

التّلوّث اللّفظيّ


التّلوّث اللّفظيّ في تونس: مِن أين؟! و إلى أين؟!
[نُشِر في "الشّعب": عدد 840، 19 نوفمبر 2005]

مِن أين بدأ هذا التّلوّثُ اللّفظيّ عندنا؟ وإلى أين يسير بنا و بنفسه؟ ما الدّافعُ؟ وما الْمآلُ؟ كيف تخلّل هذا الوباءُ أعماقَ البشر والأمكنة؟
نقول هذا لأنّه يستحيل على مَن يرتاد شوارعَ العاصمة، وهي النّموذجُ الأوفَى و ليس الوحيد لهذا الوباء، أنْ يُقضِّي فيها ربعَ ساعة دون أن تُصدَم أذناه بما نسمِّيه «المعجَم الملوَّث أو الملوِّث» [بفتح الواو أو كسرها]. وهو ألفاظُ السَّبّ والقذف والشّتم والنَّـبْز والتّعيِير... في أصل وضعه. لكنّه صار «كلاما عاديّا» على ألسنةِ مُواطنِينا، مُعبِّرا عن كلّ المعاني، بل عن المعاني المتناقِضة أحيانا. فهو لغةُ المزاح والتّحبُّب، وهو لغةُ السَّبّ العنيف والشّتم القبيح، وهو لغةُ السّخرية اللاّذِعة والتّهكُّم الْمُرّ، وهو لغةُ الغضب والرّفض والاحتجاج... حتّى إنّ بعضَ مكوّنات هذا المعجم العجيب صارتْ بديلا عن المتكلّم نفسِه تقريبا!
الخطرُ الحقيقيّ ليس فقط في رواجِ هذا المعجم بين كلّ الفئات العمريّة والأصناف الاجتماعيّة. فهو طليقُ العِنان في حرمِ المؤسّسات التّربويّة على ألسنة الفئة التّلمَذيّة من المدارس الابتدائيّة إلى الجامعات مُرورا طبعا بمراهقِي المدارس الإعداديّة والمعاهد الثّانويّة الّذين يتفنّنون في التّوليد والابتداع والاستنباط. إنّ الخطرَ الحقيقيّ هو في نفاذ هذا المعجم الشّاذّ إلى لغةِ التّخاطب اليوميّة نفاذا ساحِقا تغلغل بمُقتضاه في مسامِّ لهجتنا التّونسيّة حتّى صار مُقوِّما رئيسا من مقوِّمات قدرتها التّعبيريّة وأهلِيّتها لضمان التّواصل.
إنّ هذا المعجم شرٌّ حقيقيّ. ولكنّه صار، ويا لسخرية القدر!، مِمّا لابدّ منه. وكلُّ مستعمِل له يجد في رواجه بين النّاس مبرِّرا ومسوِّغا يرفعان عنه الحرجَ والكلفة والحياء.
نعلم جميعا أنّ هذا المعجمَ البذِيء لا تكاد تخلُو منه لغةٌ أو لهجةٌ إنسانيّة. لكنّ المصابَ الجلَل عندنا يتمثّل في شيوعه وعلانيّته بل في «شرعيّته» الّتي افتكّها، على ما يبدو، بعد صراعٍ طويل مع قِيم احترام الآخر واحترام الأماكن العامّة واحترام آداب التّخاطب. وهو صراعٌ انتهى بانتصارٍ ساحق له عليها. والجولةُ القصيرة في شوارعنا «الملوَّثة» لفظيّا [دعْك من التّلوُّث المادّي] دليلٌ قاطِع على ما نقول. بل إنّ "العفويّة" الغريبة في استعماله وتداوله تُظهره كما لو كان «لغةً أُمّا» ورِثها الصّغار عن الكبار عفْوا لا قسْرا، طواعية لا تلقينا!
كلُّ هذا التّلوّث اللّفظيّ يحصل و يتفاقم يوما بعد يوم، و يفتكُّ «شرعيّةً» تتّسع رقعتُها بلا هوادة، ولا مِن صيحة فزع! هكذا تعوّدتْ آذانُ النّاس هذا المعجمَ "الملوّث" [بفتح الواو أو كسرها]. فتلوَّثتْ به حتّى صار ما يُقرِف ويُقزِّز يمرّ مرورَ الكِرام على طبْلة الأذن، فلا يخِزُها. إنّما يهزّها هزّا خفيفا. وهنا موطنُ العجَب والوجَع معا. لذا نُبيح لأنفسنا أن نتساءلَ في حيرة:
لِمَ عمَّ هذا المعجمُ البذيء بلادَنا في فترة زمنيّة قياسيّة؟ لِمَ "تميّز" التّونسيّون عن غيرهم من العرب، على الأقل، بهذا الكمِّ الهائِل من ألفاظ البذاءة؟ ولِمَ يجرؤُون على استعمال هذا المعجم علَنا [أمّا عن السّرّ فحدّثْ ولا حرجَ] جرأةً يكاد يستحيل وجودُها في أيِّ بلدٍ آخر؟ لِمَ تقبّل الآخرون هذا المعجمَ بسلبيّةٍ نادرة ولامبالاةٍ رهيبة؟ أهو الضّميرُ الجمْعيّ الّذي استقال من مهامّه في هذا المجال؟ أو هي العربيّةُ الفصحى الّتي أُجبِرت على التّراجع لتَفسح المجالَ لِـ "لغة" لا هي بالفصحى ولا الدّارجةِ ولا الفرنسيّة ولا الأنقليزيّة... بل هي خليطٌ هجِين من العلامات اللّغويّة الغريبِ بعضُها عن بعض؟ أم هل تعُود هذه «الفاجعةُ اللّفظيّة» إلى اختلالِ القِيم القديمة مع تعذُّر تأسيس قِيم جديدة أساسُها السّلوكُ الحضاريّ والتّعايشُ المدنِيّ وحقُّ المواطِن في بيئةٍ لغويّة سوِيّة؟ أم إنّ ذلك أمارةٌ على موهبة التّونسيّ في توليد الألفاظ حسْب الحاجات الفرديّة والجماعيّة دون انتظار ما ستُفرزه مداولاتُ «مجامع اللّغة العربيّة»، والحاجةُ أمُّ الاختراع كما نعلم؟ أمْ هل يعود ذلك إلى رغبةِ فئةٍ من مُواطنينا في ضمان الحدّ الأقصى من التّواصل النّفسيّ والاجتماعيّ، أيّا كانت الوسيلةُ، ما دامت الغايةُ تبرِّر الوسيلةَ؟
لكنْ على قدرِ اتّساع الحيرة وتعاظُمها يضيقُ الجوابُ ويضمُر. فبعد استفحالِ ظاهرة التّلوُّث اللّفظيّ تكبر المسؤوليّةُ لتقعَ على كاهِل علماءِ النّفس والاجتماع من حيث الرّصدُ والإدراكُ والتّحليل، وعلى كاهِل وسائل الإعلام المتنوِّعة من حيث المحاربةُ والتّوعيةُ وتوفيرُ البديلِ الموضوعيّ. ونعني به لغةَ تواصلٍ حقّةً بها من شُروط التّحضُّر والأصالة والأناقة الشّيءُ الكثيرُ الكثير الكثير...
علينا المرورُ من موقفِ اللاّمبالاة أو التّقزُّز إلى موقف الفهمِ والتّفهُّم، ومنه إلى موقف التّعديلِ والإصلاح. فهذا المعجمُ الملوّث [بفتح الواو أو كسرها] كثيرا ما يرفعُه مُستعمِلوه لِواءَ تحدٍّ و ثورةٍ على كلّ شيْء عادةً وعلى لاشيء أحيانا. وربّما عَدّه بعضُهم نموذجا للتّجديد الحرّ مُستنِدين في ذلك إلى زمرةٍ من "المنظِّرين" لتبسيط لغة التّواصل.
قد نكون وقعْنا في التّعميم والإطلاق. فظلمنا فئات وأمكنة لَم يطَلْها هذا الوباءُ. لكنّ عُذرَنا في ذلك أنّ التّلوُّث اللّفظيّ ، وهو الانعكاسُ الصّريحُ للتّلوّث النّفسيّ والقِيميّ والاجتماعيّ ضرورةً، آتٍ لا محالةَ على البقيّة الباقية من البلاد والعباد تماما كما يجولُ الهواءُ الفاسد بحرّيّـةٍ يُحسَد عليها. فلا يحدُّه حدٌّ، ولا يمنعه قانون، ولا يُحاصره حرّاسُ الحدود.
فوزيّـة الشّـطّي
تونس: 2005.11.02




هناك 3 تعليقات:

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

"لغتُنا تعرف عنّا أكثر ممّا نعرف عن أنفسنا":
حكمة من علم النّفس تصدق على التّلوّث اللّفظيّ الفضيع الّذي يجتاح تونس بلا رادع.

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

الثّورةُ زادت التّلوّثَ اللّفظيّ حدّة وأكسبتْه "شرعيّة" مفزِعة تماما كشقيقه "التّلوّث البيئيّ"...

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

بذاءةُ التّونسيّين وصلت حدّا مَرَضيّا يستدعي الفحصَ والعلاجَ.