إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2013-06-21

هم يعملون ونحن... لا ننام


همْ يَعْملونَ، و نَحنُ... لا نَنامُ!
نُشر في جريدة 'الشّعب عدد: 1007، بتاريخ: 2009.01.31.
نُشِر في النّسخة الإلكترونيّة من جريدة 'الشّعب':

http://www.echaab.info.tn/pop_article.asp?Art_ID=7363


 ضُخِّمتْ نظريّةُ المؤامرةِ حتىّ كادتْ أن تُجرِّم مراجعةَ الذّاتِ ونقدَها رغم حاجةِ هذه الأخيرة إلى الجلْد المتكرِّر «صباحَ مساءَ  ويومَ الأحد». وها أنا أُقَدّم محاولةً متواضعةً في مشروعِ الجَلْد هذا.
  1- في الوظيفةِ العموميّةِ يُكابدُ من أبْقَى ضميرَه المهنيَّ صاحيا معافىً، أشدّ عمليّات التّنْكيل سادِيّةً. فهو إمّا أن يُعيّر بالجبْن، فيُروِّج عنه خصومُه أنّه يرتعبُ من رئيسه في العمل وتصطكُّ أسنانُه من مجرّد احْتمالِ مُواجَهته. وكثيرا ما يُصدِّقُ بعضُ رؤساءِ العمل هذه التّهمةَ، فينْتشُون بالتّطاوُل على هذا الصّنف من الموظَّفين دونَ غيره. وإمّا أن يُتّهَم بالرِّياء النّفْعِـيّ الّذي يدُوسُ كرامةَ الموظّف وشرفَ المهنةِ معا. وكثيرا ما يُعبِّر زملاؤُه، مِنَ الّذين دفنُوا ضمائرَهم بمجرّد تثْبيتِ أقدامِهم في الوظيفة وربّما قبلا، عن حيرتِهم الّتي تقُضّ مضاجعَهم وتستنْفِدُ طاقتَهم الذّهنيّةَ في غرابةِ سلُوكِه المهنِيّ –  وهو سلوكٌ طبيعيّ للغاية - وعن استنكارِهم للإثْمِ الذي أدمنَ ارتكابَه في حقِّهم، لأنّه بهذا الضّميرِ المهنِيّ السّوِيّ نسبيّا، يُهينُهم من حيث لا يدْري ولا يُريد. وقد يتساءلون ضاربِين يدًا بيَدٍ: «تبّا له! أيُريدُ أن يُحدِث ثُقْبا في السّماء؟!». ولا تَحسَبنّ اعتراضَهمْ هذا تعاطُفا مع ثُقوبِ طبقة الأوزون أو توْقا إلى رتْقِ ما تيسّر منها. فلا أخالُهم سمِعوا بها أصلا.
وكي يقِفَ "الموظَّفُ الآثمُ" عند حدّه تنشُطُ ضدّه المؤامراتُ المتقَنةُ حِبْكةً وتنفيذًا. فيتحالفُ ضدّه أعداءُ الأمسِ وتتصافحُ الأيادي الّتي طالما تصافعَتْ وتناوشتْ في تجسيدٍ مُؤثِّر للأخوّةِ العربيّة! لكنْ إلى حينِ عداوةٍ جديدة تُستَلّ فيها أسلحةُ الدّمارِ الشّامل من غِمْدها المؤقَّت!
    في هذا الصّنفِ من الهجماتِ الانتقاميّة يتساوَى "المرتزقةُ الصّرحاء" و"المقنّعون بالنّضال". إذ يتضامنُ الفريقان بما يُبدّد الفوارقَ الحقيقيّةَ - الوهميّةَ بينهما. ولأنّ هؤلاء المحاربين الخُلَّصَ أجبنُ من أنْ يواجِهوا "العدوّ المشترَكَ" في العلَن، تكون المؤامراتُ المطبوخة على نارٍ هادئة أنجعَ السّبُل للنّيل منه. بمقتضى ذلك يصيرُ "الزّميلُ الآثمُ" حمّالَ ألويةِ العُقَدِ النّفسيّة كلِّها والأمراضِ العصَبيّة جميعِها والانحرافاتِ الأخلاقيّة بالجملةِ والتّفصيل. أمّا "المرتزقةُ" فيُحْسَبُ لهم شرفُ الجرأةِ على السّفُور. وأمّا "الْمُقنّعون" فيُحسَب عليهم ذنبان:
أوّلُهما أنّهم يُرْبِكُون علاقةَ المسمّيات بأسمائِها،
ثانيهما أنّهم يفُوقون حلفاءَهم الصّرحاءَ تفنّنا وتفانيا ونجاعة لأنّ ذاك القناعَ يمنحُهم القدرةَ على التّسرّبِ الآمن بين الصّفوفِ ويَهَبُهم مناعةً ضدّ الانفضاح ولو مؤقّتا. في هذا السّياق نطرحُ التّساؤلَ المؤرِّقَ التّالِيَ: ما سرُّ العلاقةِ بين الحسِّ الثّوريّ والعَبَثِ المهنِيّ؟
    مقابلَ سياسةِ التّنكيل بالضّمير المهنِيّ قيمةً وسلوكا، تَنْشُط المنظَّماتُ الصّهيونيّة المتنوّعة في أصقاعٍ كثيرة من العالَم لصيانةِ "الأدمغة اليهوديّة" والموهوبين المعدَمِين اليهودِ من الضّياع هدَرا. فتَتبنّاهم وتَحتَوِيهم وتُنْفِقُ على دراستِهم بكلِّ مراحلِها. حتّى إذا حقَّقُوا الأهدافَ الّتي يريدون ويستحقّون جنّدتْهم في خدمة «مَمْلكة يَهْوَه» [يهوه: اسم أُطلِق في التّوراة على الله] ليرُدّوا الدّيْـنَ أضعافًا. والواقعُ حُجّةٌ على أنّهم وَافُون بما وَعَدوا.
  2- في الوقت الّذي يغرسُ الصّهاينةُ أظافرَهم في جسدِ أرضٍ ليستْ لهم وليسُوا منها، ويَستوْلون على تُراثِ الفلسطينيّين وعلى مكوّناتِ ذاكرتِهم اليوميّةِ من لباسٍ وطبخ وموسيقى وأغان شعبيّة...ثمّ يعرِضونه أمام أَنْظارِ العالَم عبْر آلَتِهِم الإعلاميّةِ الجبّارة باعتباره شاهدا على انتمائِهم الأزَليّ إلى أسطورة «أرض الميعاد»، في الوقت الّذي يلْوُون أعناقَ التّاريخِ قديمِه وحديثِه ومُعاصرِه حتّى يُنْطِقُوا اللّغةَ بغيرِ ما تعني وحتّى يُصوِّروا إرهابَ الدّولةِ والأفراد وما ارتَكبُوا من جرائمَ ضدّ الإنسانيّةِ دفاعا مشروعا عن النّفسِ البكّاءة الشّكّاءة النّاجية بمُعجزةٍ من محارِقِ النّازيّة (1)، دفاعًا يفكّرُ "أعداءُ السّاميّةِ" ألفَ مرّةٍ قبلَ الاعتراضِ عليه أو قبْل مُحاولةِ التّشكيك في شرْعيّتِه... في نفس ذاك الوقت يتبرّأُ عربٌ كثيرون من انتمائِهم الحضاريِّ كَمَنْ يتبرّأ من فضيحةٍ. أضرِبُ على ذلك مثاليْن:
أوّلُهما بسيطٌ لكنْ عميقُ الدّلالةِ. فقد شهِدْتُ بنفسي في إحدى الجامعاتِ الإيطاليّة حِوارا بين بعضِ الطّلبة التّونسيّين وآخرين أوروبيّين خلاَله تَبَجّح التّونسيّون مُفاخِرين بأنّ اللّغةَ الفرنسيّة تكادُ تكون لغتَهم الأمّ لشيُوعِها بيْن كلِّ الفئات وفي كلِّ المجالات. وشابَتْ تَبَجّحَهم هذا مرارةُ العلْقمِ لأنَّ العربيّة - ويا لِسوءِ طالِعِهم- ماتزالُ اللّغةَ الرّسميّةَ في البلاد!
ثاني المثاليْن عميقٌ شكلاً ودلالةً. أعْني به الصّحفيّ المصريّ الأصلِ «مجدِي علاّم» [وهو ليس شاذّا حتّى يُحْفَظَ، إنّما عليه يُقاسُ الكثيرُ] الّذي مثَّل "الصّوتَ العربيّ" - أسوأَ تَمثيلٍ طبْعا - في الإعلامِ الإيطاليّ الْمُتصَهْيِن ِأثناءَ حرب الخليج الأولى خاصّةً. وكان قد وصل إيطاليا نَكِرةً مُعْدَما. لكنْ سرعان ما عرَفَ مِنْ أين تُؤْكَلُ كَتِفُ. فألّفَ كتابَ «إسرائيل أحبّكِ»، احتفَى به أعداءُ الحقِّ العربيِّ من اليهودِ ومن المسيحيّين ومن العربِ المرتزقة على السّواء. وعُدّ الكتابُ حُجّةً على أنّ «أهْلَ مكَّةَ أدْرَى بشِعابِها» وعلى أنَّ الصّحفيّ النّزيهَ «يقولُ الحقّ ولَوْ على نفسِه وعلى قومِه». وأحاطَتْ بالصّحفيِّ المذكور هالةٌ إعلاميّة قدّمَتْه للرّأيِ العامّ باعتباره قُدْوةً للعربِ المشاغِبين الإرهابيّين الْمُغتصِبين حقّ "شعبِ الله المختارِ" في الأرض وفي الحياة.
وفي «عيد الفِصْح» [هو عيد تذكار السّيّدِ المسيح الفَادِي من الموت: أي الّذي فَدَى البشرَ بدمِه] الماضِي طلَّق "مجدي علاّم" الإسلامَ بالثّلاثِ ليدخل المسيحيّةَ في حفْلٍ بهيج أشرف عليه البابا «بينيدتّو 16» شخْصيّا لأنّه هو أيضا يعرِف مِن أين تُؤْكَل كَتِفُ السّياسةِ بملعقةِ الدّين وشوكتِه وسكّينه. وغطّتْ قناةُ "راي 1Rai " الإيطاليّةُ الحدثَ الجَلَلَ مسلِّطة الأضواءَ على الوجْهِ الّذي أشرَق بالإيمانِ فجأةً حتّى كأنَّ "تاجَ القداسةِ" يكلّلُ رأسَه [هو تاجٌ مذهّبٌ يكلّلُ رأسَ السّيّدِ المسيحِ والسّيّدةِ مريمَ وبعضِ القدِّيسين في الرّسوم الّتي تُمثِّلُهم].
لو كان دخولُ "مجدي علاّم" الدّينَ المسيحيّ لأسبابٍ عقَدِيّة بحتة لَما اعترضْنا عليه كما لا يمكنُ أن نعترضَ على خروجِ آخرين من دياناتِهم الأصليّة ليَدخلوا الإسلامَ لأنّ حريةَ المعتقَد حقّ إنسانِيّ مقدّس لا جدالَ فيه. أمّا توظيفُ الانتماءِ العقَديّ لخدمةِ المصالح الإيديولوجيّة والسّياسيّة المشبُوهةِ الْمُخزِيةِ فخيانةٌ من الواجب فضْحُها. ويومَ يجدُ السّيّدُ "مجدي علاّم" ما يخدمُ أهدافَهُ الشّخصيّةَ الكبرى مع "البُوذيّةِ" مثلاً سيخرجُ من المسيحيّةِ بأسرعَ مِمّا دخلَها وسيُعلِنُ توْبتَهُ النّصُوحَ في حضْرةِ كَهَنَة "بوذا" وقد أشرقَ وجهُه بالإيمانِ مرّةً أخرَى لا أخيرةً وبلغَ ذروةَ "النّيرفانا" [هي حالة الفَناءِ التّامّ الّتي يُدركُها البوذيّ بعد عيشةِ الألمِ والزّهْدِ والتّجَرّدِ من الأنانيّةِ والشّهَواتِ] تحتَ عدَسَات الْمُحتَفِين به المؤَجِّرين إيّاهُ المعترِفِين له بجميلِ فِعَالِه.
في رَكْب "مجدي علاّم" يسيرُ "مثقّفون" عربٌ اختارُوا أنْ يتغنّوْا في السّرِّ وفي العلَن بالإنجازاتِ الصّهيونيّة الأسطوريّة الّتي حُقِّقتْ على أرضٍ جرداءَ قاحِلةٍ مهمَلة لم تَتجمّلْ بزهرِ اللّوز ولا حمَلتْ غصنَ الزّيتون ولا تَنعّمتْ بِشذَى التّين... إلاّ بعد أنِ احتضنَها بشوق وإخلاصٍ بُنَاةُ «الكيبوتسات» الفريدةِ مِنْ نوعِها في العالم (2)!
لكنْ أهمّ ما يُعطّل مسيرةَ هذا الرّكْب الهُمَام نُخبةٌ مِنَ المؤرِّخين الجدُدِ اليهودِ وغيرِهم داخلَ الكيانِ وخارجَه شرعُوا يراجِعون التّاريخَ الصّهيونيّ فاضِحِين زيْفَ الأساطير الّتي أسّستْه متبرّئِين من نزْعَتِه السّاديّـةِ الإجراميّة. وما يُطمئِننا نسبيّا هو أنّ خصالَ المواطنِ الغربيّ كثيرةٌ. وأهَمّها، عندي، أنّه يحتقرُ كلَّ مَن يحتقِرُ نفسَه أيْ "أَنَاهُ الحضاريّةَ". وهو احتقارٌ نافِع آجلا أم عاجلا رغم أنّ المنْبَتّ تعوُزُه الكفاءةُ الحدْسيّة الّتي بها يستطيعُ أنْ يُدركَ ما في نظرةِ الغربيّ من هُزْءٍ وفي نبْرتِه من استِهانَة. فيتمادَى في الانْتِشاء البائِس بالانْتماءِ إلى "العالَم المتمَدّن"، إنْ لم يكنْ بالتّاريخ والجغرافيا والدّم فبـِ "المواقفِ الثّوريّة" على الأقلّ! حتّى في هذه الحالةِ يَنْدُب الحِسُّ الثّوريّ حظَّه العاثِرَ لأنّهُ جُعِل خادما ذليلا وعبدا مأمورا "للخيانةِ العُظمَى".
  3- بينما احتلّتْ المرأةُ في "الكِيانِ الصّهيونيّ" منصبَ رئيسةِ الوزراءِ [أعجزُ عن تَخيّلِ سيْل الفتاوَى الّتي ستنهالُ على رؤوسِنا لو احتلّتِ امرأةٌ عربيّة مثلَ هذا المنصبِ أو ترشّحتْ لنيْلِه!] منذُ أربعة عقودٍ مع "غولدا مائير"(3)، ونزلتْ إلى ميدانِ المعاركِ المسلّحةِ مُذْ بدأتِ العصاباتُ الصّهيونيّةُ الإرهابيّةُ [أشهرُها ثلاثٌ: "الهاغاناه" و"إرغُون" و"ليحِي"] تحلّ بأرضِ فلسطينَ، ماتزالُ "عقليّةُ الحَرِيمِ" (4) عندنا تفرضُ سطوَتَها بكُلّ تألّقٍ وبلا حيَاءٍ، مُستهدِفةً المرأةَ في كرامةِ شخصِهَا وفي حُرْمَةِ جسدِها، تلميذةً وطالبةً وموظَّفةً. والأمثلةُ على ذلك لا يُعَدّ عدِيدُها. فليس من بابِ الطّرْفة مثلا أنْ يزورَ متفقِّدٌ مّا أستاذةً ليطالبَها بنصيبِه مِنْ أنوثتِها. ويُشْهَدُ له بأنّه، عندما كانَ مُدرّسًا، لَم يتهاونْ البتّةَ في مطالبةِ تلميذاتِه بذاك "الحقِّ" المرَضِيّ. وإذْ رُدّ خائبا مصعُوقا جَنّدَ سلطتَه الافتراضيّةَ وحاشيتَه المتفانِية ليُروِّجَ أنّها النّموذجُ الأوفَى للأستاذةِ الفاشلةِ علميّا وبيداغوجيّا. وظلَّ يفعلُ فِعْلَ الآلةِ الإعلاميّة الصّهيونيّة المُجَعْجِعَة. لكنْ شتّانَ بين الغايتيْن وبين النّتيجتيْن!
بالتّوازِي مع ذلك لا يجِدُ أستاذٌ باحثٌ و"مناضلٌ" غضاضَةً في أنْ يتربّص بزميلتِه مُتستِّرا بجُنْحِ الظّلام مُتوارِيا عنِ العيُون، بِحَرم إحدى المكتباتِ العموميّة، قاذفًا إيّاها بأقْذَعِ الشّتائِم مهدِّدا إيّاها بعضلاتِه المفتُولة [أوْ هكذا بدا له]. يَفعل ذلك انتقامًا لِـ "كرامةِ" صديقِه الّذي ظلّ يُلاحِقها سنواتٍ دونَ أنْ ينالَ مِنْهُ اليأسُ. لم يشعرْ "مُربِّي الأجيَالِ" هذا بأيِّ تصادُمٍ معَ نفسِه وهو يَمْتَهِنُ [أيْ يمارسُ مِهْنَةَ] التّحَرّشَ المأجُورَ لصالحِ الغيْرِ، ولم يُخالِجْه أيّ شُعورٍ بالخِزيِ والعار وهو يرتكبُ العنفَ اللّفظيّ ويهدّدُ باستعمالِ العنف الماديّ معَ سبْقِ الإضْمار والتّرصّد، ولا هو عضّ أصابعَهُ ندمًا بعدَ أنْ استعادَ الحادثةَ في ذاكرتِه المثقوبةِ. هذا لأنّهُ يؤمِنُ بشرعيّةِ ما ارتكبَ إيمانَهُ بحقِّهِ في الحياةِ! فالأنثَى حسْبَهُ وأمثَالَهُ مِمّنْ تربّعتْ «عقليّةُ الحريمِ» على عرْشِ تركِيبتِهم النّفسيّةِ والذّهنيّةِ بلا مُنافسٍ، سلعةٌ كاسِدةٌ بلا كيْنُونةٍ مستقِلّةٍ، بل ليس لها إلاّ أنْ تُقبّلَ موْطِئَ أقْدام أيّ  "ذَكَرٍ" ينتبِهُ إلى وجودِها حتّى وهو يفتّشُ بالمِسبارِ والمِنظارِ عن مُرتّبٍ يُعِيلُه وسيّارةٍ تُقِلّهُ ومسكنٍ يُؤْوِيهِ.
«عقليّةُ الحريمِ» آفةٌ عادِلة لا تُميّزُ بين الرّجال والنّساء. والدّليلُ على ذلك أنَّ المرأةَ الّتي تثْأرُ لكرامتِها تُهاجمُها بناتُ جنسِها بشَراسةِ "الجنديِّ الانتِحارِيّ" ويتفانَيْنَ في إقامَةِ جدارِ الفصلِ العنصريّ بينهنّ وبينها تبرّءًا منْ جريمَتِها النّكراءِ. ثمّ ينهال عليها «الرّصاصُ المصبوبُ» [اسمُ آخرِ مجزرةٍ صهيونيّة ضدّ ﭬيتو- غزّة]. وإذا لجأتْ المعتدَى عليْها إلى القانونِ الوضْعيّ اشتعلتْ حماسةُ قانونِ الغابِ الّذي بفضلِهِ تصيرُ الشّاكيةُ: معتدِيةً على شرَفِ غيرِها مِنْ "قَطِيعِ الإناث" أوّلاً منتقِصةً حقّ مُطلَقِ الذّكُور في مطلقِ الحريمِ ثانيًا، متمرِّدةً بلا هوَادَةٍ على الطّقُوسِ المُجْتَمعِيّةِ في سِلْكِ "الدّعارة المقنّعةِ" ثالثًا وليس آخِرا. فبابُ التّهمِ مُشْرَعٌ على مِصراعيْه إلى أجَل غيرِ مُسمّى.
يُطالَبُ «الرّقيقُ الأبيضُ» إذنْ بالضّريبَةِ على الجسدِ. وعلى أساسِ دفْعِ الضّريبَةِ أو الامتناعِ عنها يكونُ الجزاءُ. أمّا الحالةُ الأُولى فتكشفُ تطابُقَ "الأمَةِ" و"السّيّدِ" في النّزعَةِ التّجاريّةِ القَذِرَةِ تطابُقًا يجعلُ التّبادُلَ الحرّ يتِمّ بلا مشاكلَ تُذكَرُ إلاّ إذا أخَلّ أحدُ التّاجِريْن ببعضِ بُنُودِ العَقْد. وأمّا الحالةُ التّالِيةُ فتمثِّلُ مجالَ العمليّاتِ الانتقامِيّةِ المُنظَّمَةِ ضدّ المُمتنِعةِ عن أداءِ الضّريبَةِ العُرْفيّةِ. وفي نسَقِ الثّأرِ "للذّكُورةِ" [الرّجولةُ كلمة ذات شُحنةٍ إيجابيّة وتعني صفاتِ الكمالِ، لذا لا تصلُحُ لهذا السِّياقِ] المهْدُورَةِ يستوِي الأمِّـيّ والمدَجّجُ بالشّهائدِ العلميّةِ العُليَا كما يستوِي الفَوضَوِيّ [أيِ المتحرّرُ من كلِّ سلطةٍ استنادًا إلى النّظريّةِ الفوضويّةِ في السّياسةِ والاجتماع] والمتشدِّقُ بالثّقافةِ النّخبويّةِ التّقِيّة. وتجدُ المؤامراتُ هنا أيضا المنزلةَ الفُضلَى، لأنّها تضربُ كلَّ العصافيرِ بحَجَرٍ واحِدٍ: فتَكِيلُ الصّاعَ صاعيْن للأنثى "النّاشِزِ"، وتُضَمّدُ جراحَ الذّكَرِ المهانِ، ثمّ تطوِي الصّفحةَ لتفتَحَ أخرَى أكثرَ إشراقا «ولا عينٌ رأتْ ولا أذْن سمعتْ».
إنّ شأنَ «عقليّة الحريمِ» كشأنِ النّعْرةِ العصَبيّةِ القبَليّةِ، إذا ثارتْ ثائرتُها انْتفَتْ في حضْرتِها كلّ القيمِ الإنسانيّةِ والأخلاقيّةِ والعِلميّةِ مُرتدّةً القَهقرَى إزاءَ سُلطانِها القاهِرِ. والسؤالُ الّذي ينُطّ من بين السّطورِ هو: أين حماسةُ الثّأرِ هذه في المواقفِ المصيريّةِ وفي الأزماتِ الجماعيّةِ الخانقةِ؟ أين هي و«التّاريخُ اليهوديّ المقدّسُ» يُكتَب بمدادِ الدّم العربيّ الّذي لا يكادُ ينضَبُ؟ أين هي و"رجولةُ" الإنسانِ العربيّ يستبيحُها الأعداءُ الحقيقِيّون بلا جدارِ صدٍّ؟ هل تكونُ جذْوتُها انطفأتْ – لا قَدّر اللهُ-  في جنّاتِ الحريمِ وجحيمِه؟!
«نحنُ...لا ننامُ» لأنّ تفوّقَ مواطِنٍ مّا [أعني المشاركَ إيّانا في الوطنِ لا في المواطَنة] يُؤرِّقُ أدمغتَنا المعطَّلةَ عن فِعْلِ التّفكيرِ ويُفوِّرُ دمَنا الّذي نادرًا ما تشُبّ نارُهُ. «نحنُ... لا ننامُ» حتّى نضَعَ العصا في كلِّ عجَلَةٍ تدُورُ، حتّى نُعزّيَ النّفسَ المتهالِكةَ الخذُولَ بتَخْذِيلِ مَنْ حولَنا قَسْرا، حتّى نُبرِّرَ قذاراتِنا بأقنِعَةِ المجتمعِ الذّكُوريِّ الّذي عفِنَ حِسّهُ وشرَدَتْ روحُهُ منذ دهورٍ... نفعلُ كلَّ ذلك بكفاءةٍ في التّخطيطِ واقتدارٍ على التّنفيذِ نُحْسَدُ عليْهما.
فيا عجَبِي! أيّ نتائجَ باهرةٍ كنّا سنجنِيها لو وظّفْنا هذا «الحِسّ المُؤَامراتِيّ المرهَفَ» في السّياسةِ الخارجيّةِ؟! أكادُ أجزِمُ بأنّنا لو شغّلْناه في "نكْبةِ 1948" (5) و"نكْسةِ 1967" (6) و"سقْطةِ 2003" [أعني بها الغزوَ الأمريكيّ للعراق] وغيرِها الوفيرِ، لَخرجْنا منها جميعا مُتوّجينَ بالنّصْرِ العظيمِ بعد أنْ كُنّا ألقيْنا العدُوّ في أعمقِ البحارِ غوْرًا ونفَضْنا أيْديَنا من غُبارِ بقايَاه. ثمّ شرِبْنا نخبَكَ يا... وطن!       
الهوامش:
1- هي محارقُ ضخّمتْها "المخيّلةُ" السّياسيّة الصّهيونيّة لتكونَ سيفا مسْلولا ضدّ اليهودِ "الاندماجِيّين" (الّذين رفضُوا مغادرةَ بلدانهم الأصلية) - ثمّ ضدّ الرّأيِ العامّ العالميّ في مرحلةٍ تالية - الّذين مثَّلوا خطرا حقيقيّا على مشروعِ "أحبّاء صُهيون"، وهو الهجرةُ الجماعيّة إلى فلسطين. ويُرجّح أنّ هذه المحارقَ ارتُكبتْ باتّفاقٍ سريّ بين "أودولف هتلر" (رئيس ألمانيا بين 1934 و 1945) وبين "المنظّمةِ الصّهيونيّة العالميّة" لاتّفاقِ المصالح السّياسيّة، رغم حرصِ الطّرفيْن على العداءِ المعلَن.
2-  "الكيبوتسات": كلمة عبريّةٌ مفردها "كيبوتس"، معناها "التّجمّعات". هي مؤسّساتٌ استيطانيّة ذاتُ طابَع اقتصاديّ اجتماعيّ عسكريّ، لا يتجاوزُ أعضاءُ المؤسّسة الواحدة الألفَ، يتقاسمون المهامّ والأدوار والخدمات بشكلٍ جماعيّ. زوّدتِ النّخبةَ الحاكمةَ بعديدِ القادة الصّهاينة. منهم "بن غوريون" و"موشي دايان" و"شيمون بيريز". عبد الوهاب المسيري، "الصّهيونيّة والعنف...من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصى"، دار الشّروق، ط 2، 2002، صص 191- 193.
ونذكِّر بأنّ أغلبَ "الكيبوتسات"، و ربمّا كلّها،  أُقيمَ على أنقاضِ المزارع والقرى الفلسطينيّةِ الّتي هُجِّر أصحابُها الأصليّون بالقوّة أوالخدعة أو ذُبّحُوا في مجازرَ وحشيّةٍ يندَى لها جبينُ "كاليغولا" Caligula نفسُه (إمبراطور روماني: 37 – 41 م، صار رمزًا للجنونِ والاستبداد الدّمويّيْن).
3-  غولدا مائير Meir Golda : (1898- 1978) وُلدت في روسيا، هاجرتْ إلى فلسطين 1921، نشِطتْ في حركةِ "الكيبوتس"، أوّلُ سفيرة في موسكو بعد إعلانِ الدّولة الصّهيونية، ثمّ وزيرةُ العمل (1949- 1956) ثمّ وزيرةُ الخارجيّة (1956- 1966)، ثمّ رئيسةُ الوزراء (1969- 1974). استقالتْ بعد حرب أكتوبر 1973. "موسوعة السياسة"، أسّسها: عبد الوهاب الكيّالي، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ط 3، 1990.
 4-  أرجِّحُ أن الفتوَى الّتي أباحتْ تزويجَ البنت في التّاسعة من عمرها اقتداءً بسنّةِ الرّسول - عليه السّلامُ - هي أيضا تَجلّ فاضحٌ لـ"عقليّة الحريم" المفارِقةِ للقيم الإنسانيّة العليا وللسّيرورةِ التّاريخيّة الطّبيعيّة. فطفلةُ التّاسعةِ في القرنِ الحادي والعشرين ليستْ مُعادِلا لتِرْبِها الّتي عاشتْ قبل أربعةَ عشرَ قرنا ولن تكون نظيرا لتربِها الآتية بعد بضعة عُقود. ثمّ أليْس في سيرةِ الرّسوِل ما يُقتدَى به غيرُ هذا؟!     
5-  تُسمّى "الحرب العربيّة-الإسرائيليّة الأولى": نشبتْ في (1948.05.15) بين الكيان الصّهيونيّ وقوّاتِ عدّة دُول عربيّة هي مصر والعراق والأردن وسوريا ولبنان و"جيش الإنقاذ" (وهو تشكيلاتٌ عسكريّة مكوّنة من المتطوِّعين العرب، أعلِن وجودُه في أكتوبر 1947 وحُلّ في ماي 1949 بقرارٍ من جامعةِ الدّول العربيّة). فقد قرّرتِ الحكوماتُ العربيّة تحريرَ فلسطين بعد المذابحِ الّتي ارتكبَها الصّهاينةُ ضدّ الفلسطينييّن. وكانتِ النّتيجةُ ضياعَ جزءٍ من فلسطين يفوقُ مساحةَ القسْمِ الّذي حدّده قرارُ التّقسيم الصّادر عن الأمَم المتّحدة في (1947.11.29). "موسوعة السّياسة"، أسّسها: عبد الوهاب الكيّالي، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، ط 3، 1990.
6-  تُسمّى أيضا "الحرب العربيّة-الإسرائيليّة الثّالثة" (بعد حرب "العدوان الثّلاثيّ على مصر" الّتي شنّتْها "إسرائيل" وإنقلترا وفرنسا عام 1956). نشبتْ في (1967.06.05). شاركتْ فيها وحداتٌ مصريّة وسوريّة وكويتيّة وجزائريّة وسودانيّة. حقّقَ بها الكيانُ الصّهيونيّ انتصارًا عسكريّا واستراتيجيّا، فاحتلّ جميع أراضي فلسطين وشبهَ جزيرة سيناء والضّفةَ الغربيّة والجولانَ. المصدر السّابق.
فوزيّة الشّطّي
تونس: 2008.12.30

ليست هناك تعليقات: