إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2016-09-23

القُوّاتُ الحاملةُ للسّلاح والحقُّ الانْتخابيّ

القُوّاتُ الحاملةُ للسّلاح والحقُّ الانْتخابيّ
أرفضُ رفضا قاطعا منْحَ حقِّ التّصويت لحاملي السّلاح، لا 'شـماتة' بهم أو استنقاصا من مُواطَنتهم. إنّما ذاك مِن بابِ الحرص على سلامتهم الشّخصيّة وعلى استقلاليّتهم المهنيّة وضمانا للسّلمِ الأهليّ المهدّدِ إلى أجلٍ غير مسمًّى وللمصلحةِ الوطنيّة العليا في ديمقراطيّةٍ ناشئة عليلة لم تكتسبْ بعدُ أيَّ مناعة تحميها من الهزّات والنّكسات.
كيف لأعوانِ الجيش الوطنيّ، مثلا، أنْ يشاركُوا في الاقتراع وهم المشرفون ميدانيّا على سير العمليّة الانتخابيّة؟! هم المكلّفون بحماية مراكز الاقتراع ومراكز الفرز وبنقل الصّناديق الحاويةِ لبطاقات الاقتراع ومحاضر الفرز وما يتبعهما من ملفّات. وكيف نأمنُ على المؤسّسة الأمنيّة، وهي الّتي تُكابِد جهازا داعشيّا موازيا ينخرُها نخرا، من التّمزّق والتّصدُّع والتّناحر الدّاخليّ بسبب التّسيّس العلنيّ والتّحزّب المفرَط؟!
لقد رأينا ما جنتْه 'التّعدُّديّة النّقابيّة' على الأمنيّين وعلى البلاد من تنافسٍ مُخيف (لكونه مسلَّحا) ومن عصيانٍ للسّلطة التّنفيذيّة ومن فرضِ ترقيات غير مستحقّة، وهو أمرٌ يتعارضُ مع مبادئ العدل والمساواة في المجال المهنيّ. لقد فُرِض بالقوّة ما لم يُجِزْه قانونُ الوظيفة العموميّة.
ثمّ إنّ 'الحقَّ في الاقتراع'، إنْ أقرّه 'مجلسُ نُوّاب الشّعب'، سيفتح بابَ الجدال ثانيةً حول حقّ هذه الفئات الاستثنائيّة الحاملةِ للسّلاح والمؤتـمَنةِ على أمْنِ العباد والبلاد في التّرشّح للمناصب السّياسيّة وفي القيام بحملات انتخابيّة وفي الدّخول ضمن تحالفات حزبيّة مّا... هذا لأنّ ممارسةَ 'الحقّ الانتخابيّ' ذاتُ وجهيْن متلازميْن: الحقُّ في الاقتراع (أنْ يمنحَ المواطِنُ صوتَه لمنْ يشاءُ) والحقُّ في التّرشُّحِ (أن يطلبَ المواطِنُ أصواتَ النّاخبين). ولا شيءَ في المنطق القانونيّ، على حدِّ علمي، يشرّعُ الحقَّ الأوّلَ ويُبْطِلُ الحقَّ الثّانيَ في الآن نفسِه.
إنّ ترشّحَ القُوّات الحاملة للسّلاح يفتحُ الأبوابَ مشرعَةً أمام أخطار العصيان الدّاخليّ المسلَّح في قلبِ المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة أو فيما بينَها ويُعبِّدُ الطّريقَ أمام النّزاعات الدّمويّة ويُسهِّل الانقلابات العسكريّةَ الطّاحنة... (الأنظمةُ العسكريّة مهدَّدة دوما بهذا الخطر). هذا لأنّ تجميعَ سلطةِ السّلاح والسّلطةِ التّنفيذيّة في يد واحدة يمثّل مسارا استبداديّا كارثيّا: لن يهدأَ بالٌ لمنْ احتكرَ قوَّةَ السّلاح وسُلطَةَ التّنفيذ حتّى يلتهمَ السّلطةَ التّشريعيّة ويُروِّضَ السّلطةَ القضائيّة. وفي الأثناء سيكون الإعلامُ 'الحكوميُّ' أو 'الخاصُّ التّابعُ الانتهازيُّ' خيرَ سندٍ للفاشيّة العسكريّة المنشودة أو للدّولة البوليسيّة في ثوبِها الجديد.
حيازةُ هذه السّلطات كُلِّها يُنعِشُ الفسادَ بل 'يُسلّحُه'، ويُجهض طموحَنا في قيام 'الأمن الجمهوريّ' الّذي يجبُ أنْ يعاملَ جميعَ المواطِنين على قدَمِ المساواة وفي استمرار 'الجيش الوطنيّ' الّذي يَحمي المؤسّساتِ الإداريّةَ والماليّة والاقتصاديّة زمنَ الاضطرابات ويُنجِدُ المحتاجين وقتَ الكوارث الطّبيعيّة ويحصدُ الحبوبَ كلّما عزّتِ اليدُ العاملةُ ويصنَعُ الخبزَ للجياع إنْ لزِم الأمرُ... الأمنُ والجيشُ اللّذان يدافِعان عن الرّاية الوطنيّة أوّلا وأخيرا وحولهما يلتقي التّونسيّون مهما تناطَحُوا في الشّأن السّياسيّ المهتزّ ومهما تطاحَنُوا في الهمِّ الحزبيّ المتلوِّن المتقلِّب، لنْ نجدَ لهما أثرا إنْ ألقيْنا بهما في متاهة التّسيُّس. وما 'الحقُّ الانتخابيُّ' المزعوم إلاّ بوّابةٌ لهذا الخطر السّائر بخطًى بطيئةٍ لكنْ ثابتة.
ما يدور الآنَ من جدل عقيم مقنّع بالنّزعة 'الحقوقيّة' هو إهدارٌ لوقت ثمين على التّونسيّين ومزايدةٌ سياسيّة ساذجة: 'حركةُ الدّواعش' تتّخذ موقفَ الرّفضِ لأنّها تدركُ أنّ أغلبَ الأمنيّين والعسكريّين لن يصوّتوا لها وأنّهم سيثأرون للمذابحِ الّتي ارتكبتْها في حقّهم عصاباتُ 'الأمن الموازي' وميليشياتُ 'الجيش الموازي' (سقراط الشّارني وزملاؤُه الشّهداءُ كان اغتيالُهم جريمةَ إرهاب الدّولة) وأنّ جميعَ مؤامراتها موثَّقةٌ لديهم. أمّا الأحزابُ الّتي تساند هذا الحقَّ فعلى أمل أنْ تحظى بأصواتهم في الانتخابات البلديّة الآتية وفي الانتخابات التّشريعيّة والرّئاسيّة المقبلة. وهذا وهمٌ. فأصواتُ حاملي السّلاح لا تمثّل عدَا نسبةً ضئيلة من عموم النّاخبين ولن تستطيع ترجيحَ كفّة فلان على فلتان. ثمّ إنّه لا شيءَ يضمنُ أنّ جميعَ حاملي السّلاح سيُدلونَ يومَ الاقتراع بأصواتهم. والدّليلُ أنّ الطّلبةَ، نخبةَ المجتمعِ الفتيّةَ، كانُوا أكثرَ الفئات عزوفا عن ممارسة الحقّ الانتخابيّ سابقا.
أيّها النُّوّابُ، لستُمْ أكثرَ حِرصا على حقوقِ الأمنيّين والعسكريّين منهم. والحُكماءُ المثقّفونَ الدّاعِمونَ للمصلحة الوطنيّة مِن القُوّات الحاملةِ للسّلاح أجْمعُوا، حسْبَ مَا فهمتُ، على 'دحضِ الحقّ الانتخابيّ' الّذي لا يَأتي منه، في هذا الظّرفِ السّياسيّ الـمُرتبِك، إلاّ الباطلُ. إنّ هذا 'الحقَّ' واجبُ التّأجيلِ إلى أجيال قادمة أكثرَ منّا تعقُّلا وأقلَّ منّا تشوُّشا وتشرذُما واستهدافا من المافيات الاستعماريّة الإرهابيّة.
ملاحظة: أنصحُ بالاستماع إلى السّيّد العميد 'مختار بن نصر' في برنامج 'حديثُ السّاعة' الّذي بُثَّ يومَ الأربعاء 21 سبتمبر 2016 على أمواج 'الإذاعة الثّقافيّة' التّونسيّة.
فوزيّة الشّطّي
تونس في: 2016.09.23

ليست هناك تعليقات: