إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2011-11-15

مقال: تسوّلُ الأعداد: في البحثِ عن الشّرعيّة


تسـوّلُ الأعداد: في البحثِ عن الشّرعـيّة
[نُشر في "الشّعب": عدد 899، 6 جانفي 2006]

لا أظنّني سأنسى قريبا تلميذَ السّابعة أساسيّ وهو يقف قبالتي مشدوها ليسألني بأدبٍ كبير وبحيرةٍ أكبر: «أستاذة، لِمَ لا تزيدين الأعدادَ؟!». أثّرتْ فِيَّ حيرتُه الصّادقةُ، ولَم يؤثّرْ فِيَّ السّؤالُ الممجوج. فهو خبزٌ يوميّ أو يكاد، يتجنّد له الكبارُ والصّغارُ. الكلُّ يبحث عن مبرِّر مّا لهذا "التّسوّل الجديد". وكلّما كانت المسوِّغاتُ أصلبَ كانت الحصيلةُ (من الأعداد طبعا) أهمَّ. زيادةُ الأعداد صارتْ في معجم "متسوِّليها" مرادِفا للنّزعة الإنسانيّة الرّحيمة عند "الواهبين"، وهم الأساتذة. فمن زاد أكثرَ من غيره وعمّ خيرُه على المحتاجين كان أقربَ إلى مرتبة الكمالِ الإنسانيّ والمهنيّ. ويكون الاستنتاجُ الضّمنيّ لهذا التّمشّي هو: من لا يزيد الأعدادَ يُعتبَر عديمَ الرّحمة، وقد لا يكون جديرا بالانتماء إلى صنف «المعلّم الّذي يُوفَّى التّبجيلا».
لن يشفعَ لهذا المدرّس الشّحيح الموضوعِ في قفص الاتّهام تفانيه في عمله ولا نزاهتُه العلميّة ولا كفاءتُه المهنيّة، حتّى وإنِ اعترف له بذلك المتّهِمون سرّا وعلانية. ستتبخّر هذه الخصالُ سريعا بمجرّد أن يرفضَ الانخراطَ في «جمعيّة الرّاحمين الجدُد».
أساليبُ تسوّل الأعداد قد تجاوزتِ الاستعطافَ إلى الضّغط. فأحيانا يشترط التّلميذُ المشاكس اِنضباطَه في القسم، وربّما خارجَه، بقدرٍ مّا من الأعداد المزِيدة. وأحيانا أخرى يحرص بعضُ روّاد الدّروس الخصوصيّة من ضِعاف المستوى خاصّةً على أن يكونَ المالُ الّذي يدفعون مقابلا موضوعيّا للعدد الّذي يطلبون. ويتندّر التّلاميذُ حول هذا التّعاقُد الضّمنيّ بالعبارة الرّائجة: «أُعطيكَ عشرةً (من الدّنانير)، وتعطيني عشرةً (من الأعداد)».
اِستطاع تسوّلُ الأعداد أن يفتكَّ مكانا يُحسَد عليه في أسر بعضِ التّلاميذ. فما صرنا نعجبُ لمرأَى أحد الأولياء وهو ينوبُ طفلَه في هذه المهمّة الصّعبة. ستراه يتعلّل بقسوة الظّروف ومرارتها. وإن لَم تستجبْ، أيّها المدرّسُ، لطلبه المقنَّع غالبا والصّريح أحيانا تكون قد تآمرتَ ضدّه مع تلك الظّروف وتحالفتَ معها قصدا لتدمير مستقبل ابنه الدّراسيّ، أي لتدمير أمل الأسرة كلّها في النّجاة من محنة الفقر والخصاصة.
إذا لَم تنفعْ قسوةُ الظّروف لتسويغِ هذا التّسوّل لن يحارَ مجادِلُك في إيجاد البديل: إنّ امتناعَ المدرّس عن زيادة ما تيسّر من الأعداد للتّلميذ المهدَّد بالرّفت النّهائيّ لتجاوُزه السّنّ القانونيّة أو لغيره من الأسباب هو إلقاءٌ بهذا المراهق المغلوب على أمره في مأزقِ الانحراف والجُنوح. وإنْ حدث شيءٌ من ذلك سيظلّ «الأستاذُ الشّحيح» مسؤولا عن جريمته النّكراء تلك إلى يوم يُبعثون. لن تنظر عقولُ الأسرة إلى سنوات الطّيش والاستهتار وضحالة المستوى الّتي سبقت الخيبةَ الأخيرة ولو نظرا عَرَضيّا. إنّها، حسْبَهم، خيبةٌ مفاجِئة لا شأنَ لهم فيها ولا مسؤوليّةَ لابنهم عليها.
وفي السّنوات الأخيرة تمكّن هذا التّسوّلُ الجديد من أن يفتكَّ بعضَ المقاعد داخل حرَم المؤسّسات التّربويّة. فقد حدث معي منذ سنوات أنْ طلب منّي قريبُ تلميذتي، وهو زميلي في نفس المؤسّسة، «إعانةَ» ابنة أخيه لنجدتها من الرّسوب، والحالُ أنّها أحوجُ ما يكون إليه. كنتُ وقتها مبتدئةً. فحاولتُ جاهدةً إقناعَه بأنّ الرّسوبَ في مثل هذه الحالة حقٌّ وواجبٌ معا. وعندما يئس نهائيّا من استجابتي قاطعني، وألّب ضدّي بعضَ صحبه. هذا لأنّ رفْضَ طلبه يُعدّ إهانة لشخصه أوّلا وتجاوُزا لأخلاق المهنة ثانيا. إنّ لهذه «الزّمالة الجديدة» إذن حقٌّ شرعيّ مطلق في تسوّل الأعداد لذوي القُربَى!
قد يقصِدكَ، أيّها «المدرّسُ الشّحيح»، موظّفٌ في نفس مؤسّستك. فيُلفتُ نظرَك بلباقةٍ عجيبة و بأسلوب مجازيّ مدهِش إلى أحد تلاميذكَ قائلا: «هاذاكا مْتاعْنا» [لَم أستطعْ تعريبَ هذه العبارة بما يُحافظ على كثافتها الدّلاليّة]. و«مْتاعْنا» هذه تعني أنّ التّلميذَ المتسَوَّل له قريبٌ أو صديقٌ أو مجرّد مستجِير بالموظّف المذكور. وعلى المدرّس أن يدفعَ «الصّدقةَ» طلْقَ المحيّا منشرِحَ الصّدر حتّى يؤكّد تقديرَه العميقَ لِـ «الزّمالة» أوّلا و لقيمِ الأخوّة والإجارة والرّوابط العائليّة ثانيا. وإن خضع المدرّسُ للضّغط مرّةً سيظلّ مطالَبا بالخضوع مرارا. ولن يغفر له أحدٌ (من المتسوِّلين طبعا) تخلّيه عن ذاك الالتزام الضّمنيّ.
إذْ يستميتُ «التّسوّلُ الجديد» في افتكاك شرعيّةٍ مّا، يطرحُ نفسَه أحيانا بديلا أقلَّ سوءا وشراسة مِن الغشّ في الامتحان. فالغشُّ تطاوُل على المدرّس في غيبته وطعنٌ له في ظهره. أمّا التّسوّلُ فهو تذلّلٌ له في حضرته. وشتّانَ بين هذا وذاك.
تجاوز التّسوّلُ قاعات الدّرس مع مدرّس المادّة ليكتسحَ مجالَ الأستاذ المراقِب في امتحانات الأسبوع المغلق وفي الامتحانات الوطنيّة. ونخصُّ بالذّكر مِنها "الباكالوريا". فكثيرا ما يستدِرُّ الممتحَنون عطفَ المراقِبين ويسردون من الأعذار ما لا طاقةَ لنا بتصوّره أو ذِكره. لكنّ الاستعطافَ المرِن يتطوّر أحيانا، إذا ما اصطدمَ بمصداقيّة الأستاذ المراقِب وبنزاهته، إلى غضب ونقمة وعنف. وقتها يُوضَع المراقِبُ «الشّحيح» هو الآخرُ في قفص الاتّهام. إنّه لا يُقدِّر عسرَ البرنامج ولا قسوةَ فترة المراجعة، ولا هو يتفهّم نفسيّةَ التّلاميذ المرتعِدين مِن ظروف الامتحان، ولا يأخذ بأيديهم وهم يَـمرّون بمرحلة انتقاليّة مصيريّة.
خلاصةُ القول: إنْ فشِل هذا الصّنفُ من التّلاميذ في نيل الشّهادة المرجُوّة فالذّنبُ عالقٌ في رقبة الأستاذ المراقِب إلى يوم الدّين. وإن لجأ المراقبُ إلى سلطة القانون ليحميَ شرفَ المهنة من هذا الغشّ العلنيّ المفضوح كان كمنْ أهلك طفلا ساذَجا ذنبُه الوحيد أنّه يريد أن ينجح أيّا تكنِ السّبلُ إلى ذلك. وقد حدث معي مرّةً أن صارحني تلميذٌ يجتاز أحدَ امتحانات الباكالوريا، بعد أن يئس من كسْر طوْق المراقبة، بحاجاته الماسّة إلى الاستعانة ببعض زملائه. فحذّرتُه من مجرّد التّفكير في ذلك. عندها قال وقد ثبّت عينيْه في عينيّ وعلى وجهه مزيجٌ من الدّهشة والاستنكار والغضب المكتوم: «وهل أرسُبُ أنا؟!». لقد دخل قاعةَ الامتحان، وأمثالُه كثرٌ، خالِيَ الذّهن معوِّلا على "إعانةٍ" واجبة: على الزّملاء التّلاميذ منحُها بلا قيد أو شرط، وعلى الأستاذ المراقِب تسهيلُ عبورها وتأمينُه.
إنّ ما يدهِشني حقّا هو شعورُ التّلميذ الّذي خاب تسوّلُه بالضّيْم وإيمانُه الصّادق العميق بكونه ضحيّةَ قُساة القلوب من المدرّسين والمراقِبين. إنّه مقتنِعٌ بشرعيّة تسوّله اقتناعَنا بتجريمه: أي اعتباره جريمةً في حقّ التّلميذ المتعلِّم وفي حقّ رسالة التّعليم سواءٌ بسواءٍ. والبحثُ الدّؤوب عن شرعيّة مّا يدلّ على أنّ «تسوّلَ الأعداد» أصبح في مؤسّساتنا التّربويّة ظاهرةً حقيقيّة كارثيّة تزيد تراجعَ المستوى العلميّ لتلاميذنا استفحالا وتزيد ضعفَ المستوى الأخلاقيّ عندهم حدّةً.
هل مِن إجراءاتٍ قانونيّة تردع هذا «التّسوّلَ» المهِين للرّسالة التّربويّة؟ هل مِن حملاتٍ توعويّة تكشف مخاطرَه المتعاظمة على المتعلِّمين؟ هل مِن مراجعاتٍ لمقاييس الجزاء تجعل «تسوّلَ الأعداد» عبثا لاغِيا وتقطع الطّريقَ على مُشرِّعيه: أي مَن أضفوا عليه الشّرعيّةَ الوهميّة الّتي يستند إليها الآن وينمُو نُموّا سرطانيّا على أساسها؟
فوزيّة الشّــــطّي
تونس: 2006.12.19


ليست هناك تعليقات: