مقاييسُ تبويبِ اللّغة في
التّراث العربـيّ
المقدّمة:
ننطلقُ، في محاولتِنا الإحاطةَ بالمقاييس الّتي اعتمدها
العربُ قديما عند تبويبِهم لغتَهم، من الملاحظات المنهجيّة التّالية:
-
الجمعُ
والتّبويبُ عملان متلازمان. إذ لا يُمكن تصوّرُ جمعٍ اعتباطيّ. فالتّبويبُ حايَث
الجمعَ ولازمه في مرحلة أُولى، ثمّ أعاد
في مرحلة ثانية تَمثّلَ هذه المدوّنةِ اللّغويّة الّتي ضبطها التّدوينُ.
-
يُجسِّد
الجهدُ التّبويبِيّ بدايةَ الانتقال من وصْفِ اللّغة إلى عقلنةِ وصْفها: أي بدايةَ
تأسُّس الدّراسة اللّغويّة الّتي انطلقتْ من تقْعيد المدوّنة اللّغويّة بشتّى
أبوابها لتنتهيَ إلى محاولة تعليل القواعد المستنبَطة والتّبويبات المقرّرة.
-
بما أنّ
التّبويبَ، تماما كالجمعِ، لم يكن اعتباطيّا فقد تمّ وِفق مقاييسَ مسكوتٍ عنها
غالبا [اِصطلحنا عليها بـ: الإجرائيّة
والمرجعيّة] لأنّ النّحاةَ واللّغويّين الأوائل
مارسُوا التّبويبَ دون تنظير مبدئيّ سابقٍ أو مُحايثٍ له إلاّ نادرا. إنّما مارسوه
غالبا كعمل منهجيّ يتنزّل في صُلب الدّرس اللّغويّ.
سنحاول تتبّعَ هذين
النّوعيْن من المقاييس وضبطَ تجلّياتهما في أبواب العربيّة.
I- المقاييسُ الإجرائيّة:
هي الّتي انبعثتْ من
داخل اللّغة مُستجيبةً لمنطقها ولواقعها. حتّى إنّه يمكننا الحديثُ عن عملٍ لغويّ
صِرف وعن استقلال الدّراسة اللّغويّة بآليّاتها المخصوصة. كانت تلك الدّراسةُ
نتيجةً لاستقراء المدوّنة اللّغويّة المستعمَلة [مكتوبة
ومنطوقة]. أدّى هذا الاستقراءُ إلى الفصل
المنهجيّ بين جهتَيْ اللّغة: المعجم [المادّة
اللّغويّة] والنّحو بمعناه الشّامل [قواعدُ الإعراب والتّركيب والتّصريف].
هدفُ الاستقراء
استنباطُ القوانين والقواعد في ظرف تاريخيّ تراجعت فيه السّليقةُ العربيّة وشاع
فيه اللّحنُ على الألسنة لسببيْن: البُعدُ عن ينابيع العربيّة الفصيحة والاختلاطُ
بالأعاجم. فتأكّدتْ حاجةُ الشّعوب المستعرِبة إلى من يرسم لها أوضاعَ العربيّة
حتّى تتمثّلها وتُتقنَها. في هذا يقول الفيلسوفُ «المعلّمُ الثّاني» أبو نصر محمّد
الفارابي [ت 796م]: «قد يَحدُثَ
للنّاظر فيها تأمّلُ ما كان منها مُتشابها في المفردة منها وعند التّركيب، وتُؤخذ
أصنافُ المتشابِهات منها وبما تتشابهُ في كلّ صنف منها وما الّذي يَلحق كلّ صنف
منها، فيَحدُثُ لها عند ذلك في النّفس كلّيّاتٌ وقوانينُ كُلّيّةٌ، فيُحتاج فيما
حدث في النّفسِ من كُلّيّاتِ الألفاظ وقوانينِ الألفاظ إلى ألفاظ يُعبّر بها عن
تلك الكلّيّات والقوانين حتّى يُمكنَ تعليمُها وتعلّمُها». [كتاب الحروف، ص147].
نلاحظُ ظهورَ
مقياسيْن: مقياسِ المبْنَى الّذي مُورس في النّحو +
مقياسِ المعنَى الّذي طُبّق في المعجم.
1-
مقياسُ المعنَى:
علمُ المعجم
هو تتبّعُ المفردات في جذورها وصِيغها وأوزانها ومعانيها فيما جُمِع من مَظانّ
اللّغة. وقد تعدّدتِ المعاجمُ في العربيّة وتنوّعتْ من حيثُ أساليبُ ترتيبِها
الألفاظَ ومن حيثُ موضوعاتُها أيضا.
- المعاجم
العامّة: هي ما رُتّب حسب الحروف الأصول. من ذلك:
«العينُ» للخليل بن أحمد الفراهيدي [ت 175ﻫ]: طبّق فيه نظريّةَ التّقليب الرّياضيّة انطلاقا من بنية الكلمة الثّنائيّة
أو الثّلاثيّة المفترَضة مُتتبّعا معانِيَ الكلمة في شتّى تقليباتها. فأحاط بذاك
الرّصيد اللّغويّ "المستعمَل" منه و"المهمَل". وأقرّ فيه بترتيبِ المعجم النّظريّ وتنظيمِ
ألفاظه على أساس نظام صوتيّ ينطلقُ من أكثر الأصوات عُمقا في الحلق إلى الأصوات
الشّفويّة/الهوائيّة، لذا سمّاه «العين».
أكبرُ معجم في
تاريخ العربيّة «لسانُ العربِ» لمحمّد بن مُكرّم بن منظور [ت 1311م]: وَضع فيه مقدّمات لكلّ حرف من معجمه، حَرص على ضبْطِ قواعد الحروف
وتقلّباتها حسب السّياق وعلى ضبْطِ معاني الكلمة باعتبار تنوّعِ أوزانها.
معجمُ «المقاييسُ» لأبي الحسين أحمد بن
فارس [ت 1004م]: رُتّب حسب حروفِ الهجاء.
يُعتبر التّرتيبُ
حسب الحروف محاولةً لاستيعاب الرّصيد اللّغويّ حتّى تتسنّى الإحاطةُ بالكلمة
العربيّة في شتّى صيغها ومعانيها.
-
المعاجمُ
المختصّة: هي ما رُتّب حسب الموضوعات. من ذلك:
معجمُ «الْمُهذّب فيما
وقع في القرآن من الْمُعرّب» لجلال الدّين
السّيوطي [ت 911ﻫ]: تناول فيه
مسألةً شائكة تتجاذبها الأبعادُ الدّينيّة والثّقافيّة والحضاريّة، مدارُها
التّردّدُ بين القولِ بمبدإ الأخذ والعطاء بين اللّغات وبين إنكارِ وجودِ المعرّب
في القرآن وقبولِه على مَضضٍ في باقي نصوصِ العربيّة.
معاجمُ اعتنتْ بالغريب من ألفاظ نصّيْ القرآنِ والحديث النّبويّ. منها: «الرّسائلُ المفرَدةُ في غريب القرآن والسّنّة» لعبد اللّه بن عبّاس [ت
68ﻫ] و«غريبُ القرآن» و«غريبُ الحديث» للنّضر بن شُميل [ت 819م].
معجمُ «الْمُعرّبُ من الكلام الأعجميّ
على حروفِ المعجمِ» لأبي منصور الجواليقيّ [ت 1144م]: يتنزّل في صُلب قضيّة التّداخل اللّغويّ واقتراض العربيّة ما تحتاجُه من
الألفاظ والمفاهيم من اللّغات المجاورة كالفارسيّة والنّبطيّة والرّوميّة
والعبريّة وغيرها. وحاول أن يضبطَ مصادرَ الألفاظ المقترَضة ونِسبَها ومقاييسَها
وأن يؤسّس بلاغتَها مع أصوات العربيّة.
-
معاجمُ
المشترَك اللّفظيّ والأضداد: منها «معجمُ الأضدادِ»
ليعقوب بن السّكّيت [ت 244ﻫ].
- معاجمُ
المصطلحات الفنّيّة: منها «التّعريفاتُ» للفيلسوف المتكلّم الأشعريّ عليّ بن محمّد الجرجاني
[ت 1413م] ومعجمُ العلوم الإسلاميّة «كشّافُ
اصطلاحات الفنون» لمحمّد عليّ التّهانوي [ت 1158ﻫ].
- معاجمُ
الفصاحة: منها «الفصيحُ» للنّحويِّ الكوفيّ أبي العبّاس ثعلب [ت 291ﻫ] الّذي أراد به تقويمَ ألسنة المبتدئين باحثا في علاقة اللّفظ بالاستعمال،
ومعجمُ «الصّحاحُ» لأبي نصر إسماعيل الجوهريّ [ت 1005م] الّذي رَتّبه على
أواخر الكلمِ مُتتبّعا المعانيَ المتنوّعة وتشبّثَ فيه بشرط الفصاحة وبالصّحيح اللّغويّ.
- معاجمُ
الأعلام: أشهرُها «بُغيةُ الوُعاة في طبقات اللّغويّين والنّحاة» لجلال الدّين السّيوطي [ت
911ﻫ].
2-
مقياسُ المبنَى:
تجلّى هذا المقياسُ في النّحو باعتباره عِلما يتتبّعُ القوانينَ الّتي
تضمنُ الاستعمالَ السّليمَ للعربيّة. في هذا يقول عثمانُ بن جنّيّ [ت 1002م] مُعرّفا النّحوَ:
«انتحاء سمت كلام العرب في تصرّفه من إعراب وغيره كالتّثنية والجمع
والتّحقير والتّكسير والإضافة والنّسب والتّركيب وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل
اللّغة العربيّة بأهلها في الفصاحة. فينطق بها وإن لم يكنْ منهم» [الخصائص، ج 1، ص 34]. والنّحوُ المقصود هنا يشمل التّصريفَ الّذي سيشرعُ في الاستقلال بنفسه
وتُوضع فيه التّصنيفاتُ المفردةُ مع أبي عثمان المازني [ت
863م] في كتابه «التّصريف» وأبي عليّ الفارسي [ت
987م] بكتابه «الإيضاحُ في النّحو».
-
في الكلمة: تدخّل مقياسُ المبنَى هذا ليحدّدَ التّقسيمَ الثّلاثيّ
للكَلِم كالآتي:
الاسم: مُعرَب عادة (باستثناء المعوّضات) +
ما يقترن بعلامات التّعريف وبحروف الجرّ.
الفعل: مُعرَب (صيغة المضارع) أو مبنِيّ (صيغتا
الماضي والأمر) +
ما يقترنُ بعلامات خاصّة كأدوات النّصْب والجزْم والتّحقيق والتّوكيد...
الحرف: مبنيّ دائما + ما لا يقترنُ
بعلامات الأسماء والأفعال.
-
في التّركيب: عُرّفت أقسامُ الكلام في علاقاتها بغيرها مِمّا يُجاورها في الجملة:
الاسم: ما دلّ على معنًى خالٍ من المقولة الزّمنيّة + ما يُسنَد ويُسنَد إليه.
الفعل: ما دلّ على معنًى مقترن بزمن مّا +
ما يُسنَد ولا يُسنَد إليه.
الحرف: ما دلّ على معنًى في غيره + ما
لا يُسنَد ولا يُسنَد إليه.
ظلّ هذا التّقسيمُ الثّلاثيّ مستقرّا مُذْ حدّه أبو بشر عمْرُو عثمان سيبويه
[ت 180ﻫ] بقوله: «فالكَلِمُ اسمٌ وفعل وحرف جاء
لمعنى ليس باسمٍ ولا فعل» [الكتاب، ج 1، ص 12].
أدّت هذه المقاييسُ الإجرائيّة الّتي هي من صُلب
اللّغة العربيّة إلى تفريعات داخليّة ضمنَ الأبواب الكبرَى. فانقسمتْ أبوابُ "الاسم" و"الفعل" و"الحرف" إلى فصولٍ فرعيّة عدّة. وسَعتِ المصنّفاتُ
اللّغويّة إلى تتبّع المسائل النّحويّة بأساليب الحصر والتّجميع والتّواتر دون
تبويبها تحت نظام داخليّ معيّن لأنّ مصنّفات اللّغويّين والنّحاة الرّوّاد خاصّة
كانت أقربَ إلى العمل الموسوعيّ الّذي يتناول العربيّةَ كظاهرة نوعيّة منها إلى العمل
المختصّ بباب معيّن أو بمسألة مّا. و«الكتاب» مثالٌ لذلك. إذْ كان نموذجا
للمصنّف في النّحو بمفهومه الشّامل لقواعد التّركيب وبنية الكلمات وخصائص الحروف
جميعا. وكذلك كان كتابُ «الخصائص» لابن جنّيّ الّذي تتالتْ فيه الأبوابُ المتنوّعة (بابُ القول على النّحو، بابُ القول على أصل اللّغة
إلهامٌ هي أم توقيف، بابٌ في أنّ ما قِيس على كلام العرب فهو من كلام العرب...). فمتنُ «الخصائص»كلّ شاملٌ هدفُه ضمانُ «انتحاءِ سمْتِ كلام العرب في تصرّفه» بعبارة مُؤلِّفه.
في شأن المعجم
قال د.محمّد رشاد الحمزاوي: «نعتقدُ أنّ
المعجمَ العربيّ ليس مجرّد نظرة لغويّة بحتة، بل إنّه يستمدّ كثيرا من مُقوّماته
من مذاهب أصحابه الإيديولوجيّة والاجتماعيّة» [المعجم العربيّ: إشكالات ومقاربات، ص 69]. دليلُ ذلك القولُ بالفصيح أو الصّحيح اللّغويّين أو المعرّب أو
الدّخيل... بما يُملي اختياراتٍ لغويّة معيّنة في المعاجم ويفرضُ إلغاءَ اختيارات
أخرى منها. وإذن فهذه الأنواعُ من الألفاظ دالّةٌ بغيابها من المعاجم العربيّة
تماما كما هي دالّة بحضورها فيها.
II-
المقاييسُ
المرجعيّةُ:
هي المقاييسُ النّاتجةُ عن تأثّر الدّراسة اللّغويّة بالعلوم العربيّة
المكتملة أو المحايثة لها في النّشأة والتّأسّس، استوردها الدّرسُ اللّغويّ - مُتمثّلا هنا في الجهد التّبويبِيّ- من خارج اللّغة لِتُمثّل بذلك نقطةَ تقاطُع مختلف المعارف الإسلاميّة.
والمقاييسُ نوعان بحسْب المرجعيّة الّتي يستندُ إليها كلّ منهما.
1-
مقياسٌ ذو مرجعيّة دينيّة:
-
على مستوى المعجم: تمثّل المقياسُ ذو المرجعيّة الدّينيّة في اعتماد
السّماعِ الّذي نادت به مدرسةُ الكوفة. وهذا يُقابلُ القولَ بالنّقل في العلومِ
الشّرعيّة وما انجرّ عنه من ضبطٍ لِـ "شروط
الصّحّة". فمنهجيّةُ أهل الحديث القائمةُ
على الرّوايةِ والإسنادِ قد تسرّبتْ إلى باقي العلومِ: التّفسيرِ والفقهِ واللّغة.
بل وجدتْ لها مُستقَرّا في الخبر الأدبيّ أيضا.
أدّى ذلك إلى خضوعِ المادّة اللّغويّة لأحدِ مَصيريْن: انتقاءِ "الصّحيح"
أو إقصاء "غيرِ الصّحيح". تقول عائشة عبد الرّحمان واصفةً المنهجَ
النّقليّ عند علماء المسلمين الّذي بدا عظيمَ الشّبه بمنهج اللّغويّين: «قولُنا "حديثٌ صحيح"
لا يعني أنّه صحيح على وجه القطْعِ. بل يعني أنّه صحّ على شروطِنا، كما أنّ قولَنا
"حديثٌ غيرُ صحيح" لا يعني الجزمَ بعدم صحّته. فهو قد يكون صحيحا في الواقعِ.
ولكنّه لم يصِحّ على شروطِنا. واللّه أعلمُ» [تكوين العقل العربيّ، عابد الجابري، ص 64].
لقد نشِطتْ
المدرسةُ السّماعيّة في الكوفة حيثُ عُنِي بالفقه الحنفيّ الّذي «يفتحُ البابَ على فروعٍ دون أصول عقليّة تضُمّ
شعبَها الكثيرةَ» حسْب د.شوقي ضيف [المدارس النّحويّة].
بالتّوازي مع ذلك كان الانشغالُ بقراءات القرآن وروايةِ الأشعار والأخبار. في هذا
السّياق يتنزّلُ معجمُ «الصّحاح» الّذي قال عنه جلال الدّين عبد الرّحمان السّيوطيّ
[ت 1505م] مُجِلاّ إيّاه: «فهو في تاريخ اللّغة نظيرُ "صحيح البخاري" في
كتُب الحديث. وليس المرادُ على كثرة الجمعِ بل على شرط الصّحّة» [المزهرُ في
علوم اللّغة وأنواعها].
-
على مستوى النّحو: تجلّت المرجعيّةُ الدّينيّة في نشأةِ علم أصول النّحو
الّذي حاكَى في منهجه خاصّة علمَ أصول الفقه. وجَسّد هذا الأخيرُ مرحلةَ الانتقال
من العلومِ الشّرعيّة إلى العلوم التّعليليّة (الاشتغال
بتفسير النّصّ) كذلك كان الشّأنُ بالنّسبة إلى
علم أصول النّحو الّذي يُعرّفه أبو بركات الأنباري [ت
577ﻫ]: «علمٌ
يُعرَف به القياسُ وتركيبُه وأقسامُه من قِياسِ العِلّة وقِياس الشّبَه وقِياس
الطّرْد إلى غيرِ ذلك»، ويُضيف أنّه ضُبِط: «على حدِّ أصول الفِقه، فإنّ بينهما من المناسبةِ ما
لا يَخفَى لأنّ النّحوَ معقولٌ من منقولٍ كما أنّ الفِقهَ معقولٌ من منقولٍ.
ويَعلمُ حقيقةَ هذا أربابُ المعرفةِ بهما» [لُمَعُ الأدلّة في أصول النّحو].
النّحوُ إذنْ، مَدِينٌ للفقهِ بالاسمِ والمنهجِ والتّقسِيمات الدّاخليّة.
عن هذا يقول السّيوطيّ: «أصولُ النّحوِ
بالنّسبة إلى النّحو كأصولِ الفقه بالنّسبة إلى الفقه»
[الاقتراحُ في علم أصول الفقه]. وكان من أهمّ مباحث علم أصول النّحو مبحثُ
العِلّةِ المجرّدة الّذي مَثّل علمَ الكُلّيّات اللّغويّة. وحَظِي هذا العلمُ
بعمليّة تصنيفٍ داخليّة، وسعَى إلى أن يكونَ التّوأمَ المعرفيّ لعلم أصول الفقه.
2-
مقياسٌ ذو مرجعيّة فلسفيّة:
تأثّر القياسُ النّحويّ بالقِياس الأرسْطيّ الفلسفيّ. تبيّن ذلك في مبحث
العِلّة فِقْها ونحوا وعلمَ كلامٍ مع البصريّين في عملِهم المعجميّ.
-
على مستوى المعجم: كان عقلُ البصرة أكثرَ
استعدادا لِوضْع العلوم. وذلك لاتّصاله بالثّقافات الأجنبيّة وبالفكر اليونانيّ
مُستوعِبا من خلاله حدودَ المنطق وأقيِستَه. لذا نشط فيها علمُ الكلام الّذي يناقش
المسائلَ الكلّيّةَ بالتّوازي مع القولِ بالقياس المنطقيّ في اللّغة. يُعرّفُ
د.شوقي ضيف هذا القياسَ قائلا: «قانونُ القياس
عامّ وظلالُه مُهيمنةٌ على كلّ القواعد إلى أقصَى حدّ، بحيث يُصبِح ما يخرجُ عليها
شاذّا، وبحيث تُفتَح الأبوابُ على مصاريعها ليُقاسَ على القاعدة ما لم يُسمَعْ عن
العرب ويُحمَل عليها حَملا. فهي المعيارُ المحكَم السّديد»
[المدارسُ النّحويّة، ص20]. لكن اشترط نُحاةُ البصرة صحّةَ المادّة المعجميّة الّتي
يشتقّون منها قواعدَهم.
- على
مستوى النّحو: تجلّى حضورُ المرجعيّةِ الفلسفيّة في
جانبيْن إثنين. أوّلُهما: جانبُ المقولات النّحويّة وتطبيقها في التّفكير النّحويّ
العامّ. من ذلك القولُ بأنّ للكلمة وللجملة جوهرا. من هنا تولّدتْ فكرةُ تقدير ما
غاب لفظا من هذا الجوهر. ثانيهما: جانبُ الأقيسة والتّعليلات في المسائل النّحويّة
الخاصّة وما ساير ذلك من مُحاكاة للتّقسيمات اللّغويّة الّتي جاء بها أرسطو والّتي
خلط فيها بين النّحو والمنطق. نضربُ أمثلةً على ذلك:
تعريفُ الاسمَ بكونه "ما
لا يُوصف بالصّدقِ والكذبِ إلاّ إذا أُسنِد":
والمعلومُ أنّ مقولةَ الصّدق والكذب تندرج ضمن الدّراسات المنطقيّة لا اللّغويّة.
قضيّةُ العِلل: في شأنها يقول عابد الجابري: «إذا كان النّحاةُ الأصوليّون قد استنسخُوا الهيكلَ
العامّ لعلم أصول الفقه فإنّهم في مسألة التّعليل كانُوا أقربَ إلى المتكلّمين
منهم إلى الفقهاء... إنّهم يستنبطون عللَهم بالاستقراء من كلام العرب. وكلامُ
العرب من معطيات الحسّ والمشاهدة» [بنيةُ العقل العربيّ، ص 166].
إشكاليّةُ التّعليل في النّحو إنّما هي امتدادٌ لذاتِ
الإشكاليّة في الفقه والكلام. لذا ظلّت العللُ النّحويّة متردّدةً بين العللِ
الفقهيّة وقرينتِها الكلاميّة. لكنّ الزّجّاجي يحسمُ هذا التّردّدَ: «أقولُ أوّلا إنّ عللَ النّحوِ ليستْ مُوجِبةً،
وإنّما هي مُستنبَطةٌ أوضاعا ومقاييسَ. وليستْ كالعِلل الْمُوجِبة للأشياء
الْمَعلولةِ بها» [الإيضاحُ
في عللِ النّحو]. وقد فرّعها إلى أنواعٍ
ثلاثةٍ:
(1) العلّةُ التّعليميّة: تُعلِّمُ كلامَ العرب بقياس بعضه على بعض.
(2) العلّةُ القياسيّة: تُعلّلُ بها الأحكامُ النّحويّة.
(3) العلّةُ الجدليّة النّظريّة: تُعلِّل العللَ القياسيّة.
إنّ هذه المقاييسَ المرجعيّة، بحضورها المكثّف في الدّراسة اللّغويّة،
دليلٌ على أنّ مصادرَ المعرفة الإسلاميّة الّتي حَظيتْ بأسبقيّة التّأسُّس على
تقنين اللّغة استطاعتْ أن تخترقَ الجهدَ التّبويبِيّ في المجال اللّغويّ كما كانتْ
استطاعت سابقا توجيهَ عمليّة الجمعِ والتّدوين فيه. حدث ذلك لِسببيْن: اكتمالُها
الذّاتِيّ وتأخّرُ العربيّة نسبيّا عن تأسيس علومها المستقلّة. وجسّدتْ هذه
المقاييسُ ذاتُ الخلفيّات الدّينيّة والفلسفيّة لحظةَ التّماسِّ في صُلب الثّقافة
الإسلاميّة بين شتّى روافدهها من فقهٍ وعلمِ كلام وفلسفةٍ ولغة...
الخاتمة:
نصل بهذا البحث إلى بعض الاستنتاجات:
(1) إذا كانت المقاييسُ الإجرائيّة دليلا على استقلال البحث اللّغويّ باعتبار
أنّ قوانينَ اللّغة الْمُرادَ استنباطُها تنطلقُ من داخل اللّغة فإنّ المقاييسَ
المرجعيّة مثّلتْ حُجّةً على تشابُك مصادر المعرفة في الثّقافة الإسلاميّة من جهةٍ
وعلى انشدادِ الدّراسة اللّغويّة إلى العلوم الّتي سبقتْها في التّأسّس أو تزامنتْ
مع نشأتها من حيث المنهجُ والمضمونُ من جهة أخرى.
(2) كان التّبويبُ في اللّغة العربيّة تجلّيا لمقاييسَ مسكوتٍ عنها غالبا (خاصّة منها الإجرائيّة)
أكثر مِمّا هو تطبيقٌ لتنظيرٍ مبدئيّ سابق له أو متزامن معه. وكما كان التّبويبُ
استقراء للمدوّنة اللّغويّة كان استنباطُ المقاييس استقراءً لأبواب العربيّة.
(3) كان الجهدُ التّبويبِيّ ألصقَ بواقعِ اللّغة العربيّة وبمنطقها الدّاخليّ
كظاهرة نوعيّة من عمليّة الجمع والتّدوين الّتي وجّهتْها عواملُ موضوعيّة بعيدة
إلى حدٍّ لافت عن البحث اللّغويّ. وقد انتقل التّبويبُ بالعربيّة من الممارسة
التّلقائيّة القائمة على الملَكة/السّليقة إلى
الاستعمال المقنِّن لها كلغة نوعيّة متجاوِزا مرحلةَ الوصف التّحليليّ هذه إلى
التّفكيرِ من خلالها في الظّاهرة اللّغويّة عامّة ومحاولةِ اكتشاف نواميسها
الكلّيّة.
المصادر والمراجع:
-
الأنباري (أبو بركات كمال الدّين): لُمع الأدلّة في أصول
النّحو، المطبعة الكاثوليكيّة، بيروت، 1963.
-
البقري (أحمد ماهر): نحاة ومناهج، نشر المكتب الجامعيّ
الحديث، 1984.
-
الجابري (محمّد عابد): تكوينُ العقل العربيّ، مركز
دراسات الوحدة العربيّة، الطّبعة 6، بيروت، 1994.
-
الجابري (محمّد عابد): بنية العقل العربيّ، مركز دراسات
الوحدة العربيّة، الطّبعة 4، بيروت، 1992.
-
حسّان (تمام): مناهجُ البحث في اللّغة، دار الثّقافة،
الدّار البيضاء، 1979.
-
الحمزاوي (محمّد رشاد): المعجمُ العربيّ: إشكالات
ومقاربات، بيت الحكمة، قرطاج.
-
الزّجّاجيّ (أبو القاسم): الإيضاحُ في عِلل النّحو، دار
النّفائس، بيروت.
-
سيبويه: (الكتاب)، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطّبعة 3، 1988.
-
السّيوطيّ (جلال الدّين): المزهرُ في علوم اللّغة
وأنواعها، دار إحياء الكتب العربيّة، القاهرة (د.ت).
-
ضيف (شوقي): المدارس النّحويّة، دار المعارف بمصر،
القاهرة، 1972.
-
الفارابيّ (أبو نصر): كتاب الحروف، دار المشرق، بيروت،
لبنان، الطّبعة 2، 1990.
-
المسدّي (عبد السّلام): التّفكير اللّسانيّ في الحضارة
العربيّة، الدّار العربيّة للكتاب، الطّبعة 2، 1986.
فوزيّة الشّـطّي
تونس: فيفري 1995