إجماليّ مرّات مشاهدة الصّفحة

2025-10-21

مقال: (ماريا كورينا ماتشادو: مَن تكون؟)، صوتُ الشّعب، 2025.10.17


 

£ ماريا كورينا ماتشادو: مَن تكون؟ £

نُشر في جريدة 'صوت الشّعب العدد: 99، بتاريخ: 2025.10.17

فازتْ يومَ الجمعة (2025.10.10) المعارِضةُ السّياسيّة الفنزويليّة "ماريا كورينا ماتشادو"María Corina Machado  بما يُسمّى "جائزة نوبل للسّلام" الّتي تُشرف عليها هيئةٌ يعيّنها البرلمانُ النّرويجيّ وتُمنَح منذ عام 1901 للّذين «بذلوا أقصى جهد أو أفضلَه مِن أجل التّآخِي بين الأمم، وإلغاءِ الجيوش النّظاميّة أو تقليصها، والحفاظِ على السّلام وتعزيزه». فمَن تكون الفائزةُ حتّى ترضى عنها لجنةُ نوبل؟

1- تُعتبَر الفائزةُ الملقَّبة بـ "المرأة الحديديّة" مِن حلفاءِ البيت الأبيض المندسّين في السّاحةِ السّياسيّة بفنزويلا تحت ستارِ "الدّفاع عن الحقوق الدّيمقراطيّة" (بالمفهومِ الأمريكيّ الخبيث للحقوق وللدّيمقراطيّة). وذلك سعيا إلى ترويضِ هذه الدّولة "المارقة" وإخضاعِها لهيمنةِ الإمبراطوريّة الأمريكيّة الّتي أدمنت التهامَ الأخضر واليابس مِن مناطق النّفوذ في الأمريكتيْن الوسطى والجنوبيّة خاصّة وفي العالم عامّة.

2- في الشّأنِ الاقتصاديّ تعارض "ماريا" النّمطَ الاشتراكيّ الحاليّ وتتبنّى اقتصادَ السّوقِ الحرّ والمنافسةَ المفتوحة وخصخصةَ الشّركات العموميّة وتقليصَ دور الدّولة في الاقتصاد. ويؤدّي ذلك حتما إلى فتحِ أبواب البلاد على مصراعيْها أمام الشّركات المتعدّدة الجنسيّات الّتي تمارس الاحتكارَ الأشبهَ بالاستعمار الاقتصاديّ. وهذا يعني انخراطَ "صاحبة نوبل" في تشريعِ الرّأسماليّة المتوحّشة الّتي لا تردعها القوانينُ الشّغليّة ولا تقف في طريقِ عربدتها مؤسّساتٌ حكوميّة سياديّة ولا يكون البقاءُ إلاّ للأقوى في طواحينِها العملاقة المستأسِدة.

3- كانت "كورينا" قد باركت الضّربةَ العسكريّة الأمريكيّة الّتي قصفتْ يومَ (2025.10.03) مركبَ صيد قبالةَ السّواحل الفنزويليّة بذريعة أنّه يهرّب المخدّرات إلى الولايات المتّحدة. وهذا هو الاعتداءُ الخامس مِن نوعه. إذ كان الأمريكيّون قد قصفوا، بنفسِ الذّريعة المشكوك فيها، سفنا وقوارب فنزويليّة أخرى أيّامَ (02 و15 و16 و19) سبتمبر 2025 أدّتْ جميعُها إلى مقتل 21 مواطنا. ضِفْ إلى ذلك أنّ "بطلةَ السّلام" هذه لم تُحرّكْ ساكنا احتجاجا على الحشد العسكريّ الأمريكيّ المتصاعِد في بحر الكاريبي والّذي يُعَدّ الأضخمَ منذ غزو بنما عامَ 1989 ويُنذر بعدوانٍ عسكريّ محتمَل على بلادها. فالمؤكّد أنّ مَن يبارك العدوانَ الأجنبيّ المسلّح على الوطن أو يسكت عنه انتهازيّةً وتواطؤا هو خائنٌ عن سبْق الإضمار والتّرصّد ولن يمانعَ إطلاقا في دخول "قصر ميرافلوريس" الرّئاسيّ Le palais de Miraflores بكاراكاس Caracas على ظهرِ دبّابة أمريكيّة فارهة ليفعلَ بوطنه ما فعل الجنرالُ المتأمرك "أوغستو بينوشيه" Augusto Pinochet  في تشيلي بعد انقلابه العسكريّ الدّمويّ على الرّئيسِ المنتخَب ديمقراطيّا "سلفادور أليندي" Salvador Allende عامَ 1973. حسْبُنا التّاريخُ معلِّما لنتوقّعَ ما قد يحدث.

4- في لقاءٍ تلفزيّ تعهّدتْ "ماتشادو" مباشرةً بعد إعلانِ فوزها بالجائزة، بنقلِ سفارة بلادها إلى القدسِ المحتلّة إذا ما ربحت الانتخابات الرّئاسيّةَ القادمة. وفي الخطابِ السّياسيّ يُعدّ هذا التّصريحُ غزلا إباحيّا فاحشا. المعلومُ أنّ الرّئيسَ الفنزويليّ الرّاحل "هوغو شافيز" Hugo Chávez كان قد قطع العلاقاتِ الديبلوماسيّةَ مع الكيان وطرد سفيرَه يومَ (2009.01.06) احتجاجا على حربِ الإبادة الّتي كان جيشُ الاحتلال يخوضها برّا وبحرا وجوّا على قطاعِ غزّة في شتاء ذاك العام. والرّئيسُ الحاليّ "نيكولاس مادورو" Nicolás Maduro يواصل نفسَ السّياسة الخارجيّة. فهو مناهضٌ للهيمنة الصّهيونيّة- الأمريكيّة على العالم. وعُرِف بمواقفه الدّاعمةِ للنّضال الفلسطينيّ والفاضحةِ لحروب الإبادة وللمذابح الممنهَجة الّتي ينفّذها الاحتلالُ مدعوما بالقوى الاستعماريّة الغربيّة دعما غيرَ مشروط.

5- إنْ بدتْ "جائزةُ نوبل للسّلام" في ظاهرها حقوقيّةً محايدة، فإنّها سياسيّةٌ منحازة بامتياز. إذْ لا ينالُها إلاّ مَن قبِل أن يكونَ أداةً بيد الغرب ورضيتْ عنه دوائرُ القرار الدّوليّ. شيئا فشيئا صارت الجائزةُ أشبهَ بالرّشوة الّتي تُدفَع علنا لشراءِ الذّمم: إمّا لجزاءِ العملاء المخلصين أو لاصطيادِ العملاء الجدد الحالمين بالمجد والبذخ أو لإحراجِ الأنظمة السّياسيّة المعادية. الدّليلُ على انحيازِ جائزة نوبل للسّلام أنّها مُنِحتْ لبعضِ معارضي الأنظمة الأشدّ عداوة للأمريكيّين: مُنِحتْ لمعارضِ النّظام الصّينيّ (النّاشط الحقوقيّ ليو شياوبو: 2010) ولبعضِ معارضي النّظام الرّوسيّ (الصّحفيّ ديميتري موراتوف: 2021، منظّمة "ميموريال" الحقوقيّة: 2022) ولبعضِ معارضي النّظام الإيرانيّ (المحامية شيرين عبادي: 2003، الصّحفيّة والحقوقيّة نرجس محمّدي: 2023)... بيد أنّ نفسَ الجائزة لم تُمنَحْ لأيٍّ مِن معارضي أنظمة المعسكر الغربيّ المتصهين حتّى العظمِ رغم أنّ القاصيَ والدّاني يعلم فظاعةَ إرهاب الدّولة الّذي ترتكبه "الإمبراطوريّةُ الأمريكيّة المتوحّدة" [هكذا يسمّيها الأكاديميُّ والفيسلوف الأمريكيّ نعوم تشومسكي]، زعيمةُ هذا المعسكر المحصَّن، في جهاتٍ عدّة مِن عالمنا المستباح. ولم تُسنَد الجائزةُ أيضا لأيٍّ مِن معارضي الأنظمة العربيّة الوظيفيّة، خاصّة منها "الإمبراطوريّات الافتراضيّة" مِن فصيلة قطر والإمارات، رغم كونها تُوغل في الفساد والاستبداد وتطعن شعوبَها في مقتلٍ مِن أجل عيونِ "العمّ سام" وعيونِ "إسرائيل الكبرى". بل لو توفّرتْ في الجائزة ذرّةُ مصداقيّة لكانت مُنِحت لمئات الحقوقيّين والصّحفيّين والسّياسيّين الفلسطينيّين الّذين يكافحونَ منذ أكثر مِن ثمانية عقود كيانا استعماريّا متوحّشا خارجا عن القانونِ الدّوليّ ومارقا عن القيمِ الدّيمقراطيّة جميعها. [حاز الزّعيمُ الرّاحل ياسر عرفات هذه الجائزةَ عام 1994، مناصفةً مع شمعون بيريز وإسحاق رابين، بعد أن وقّع صفقةَ أوسلو  Oslo الّتي مثّلتْ نكبةً ثانية للشّعب الفلسطينيّ]. تاريخُ الجائزة يشهد بأنّها أقربُ إلى وصمة العار وأبعدُ عن التّكريم المستحَقّ. ولأنّها كذلك يمكن اعتمادُها وسيلةً لفرز المناضلين الوطنيّين عن "المناضلين" الانكشاريّين.

خلاصة القول: لو لم تكنْ ماريا كورينا ماتشادو خادمةً طيّعة للمنظومةِ الصّهيوأمريكيّة الماسكةِ بخناق العالم سياسيّا واقتصاديّا وعسكريّا وإعلاميّا، لَما حلمت يوما بمجرّد التّرشّح لـ "جائزة الاستسلام" الاستعماريّة المشبوهة. ولو كانت هذه المعارِضةُ السّياسيّة تصارع النّظامَ القائم ملتزمةً بالولاء لبلادها، لَـما التفت إليها صنّاعُ الفتن وسماسرةُ الحروب ومخرّبو الأوطان. السّيّدة "ماريا" فرسُ سباق يراهنُ السّادةُ الكبار على فوزها طوعا أو كَرها. وقد شرعوا يجمّلونها بالأوسمة، عسى أن تليقَ بعرشِ فنزويلا المستهدَفة حكومةً وشعبا.

£ فوزيّة الشّطّي، تونس: 2025.10.12 £