تونسُ ليستْ تركيا
تدّعي الأحزابُ الدّينيّة التّونسيّة أنّها معتدلة كما هو حال "حزب العدالة والتّنمية" الحاكمِ في تركيا. تقول هذا لتُطمئِن الرّأيَ العامّ المحليّ المتخوّف من مشروع الخلافة الإسلاميّة وما يصاحبه من تطبيق للشّريعة حسب الاجتهاد المعاصر الأشدِّ انغلاقا مِمّا كان عليه الأسلافُ في قرون خلتْ.
هذا الادّعاءُ مغالطةٌ بكلّ المقاييس. أوّلا لأنّ تونس ليست تركيا بما في هذه الأخيرة من تنوّعٍ دينيّ ومذهبيّ وعرقيّ يمثّل قوّةً ضاغطة ضدّ فكرة الخلافة ومشتقّاتها. ثانيا لأنّ الدّستور التّركيّ، وهو السّلطة التّشريعيّة الأعلى، يُقرّ بعَلمانيّة الدّولة [أي الفصل التّامّ بين الدّين والدّولة]. بمقتضى ذلك لا يستطيع الحزبُ الإسلاميّ الحاكم التّطاولَ على الطّابع المدنيّ للدّولة والمجتمع التّركيّين حتّى لو أراد ذلك. تُرى، أسيقبل إسلاميّونا بمبدإ العَلمانيّة وهم الّذين روّجوا قصدا أنّها معادِلٌ للكفر والإلحاد وإلغاء الدّين من الحياة العامّة؟ وهل يبدو المجتمعُ التّونسيّ مستعدّا ذهنيّا وعلميّا ونفسيّا لتقبّل فكرة إدراج العَلمانيّة في نصّ الدّستور وهو الرّافضُ بجهلٍ شرسٍ لمجرّد الخوض في شأنها؟ سياسةُ التّجهيل الممنهَج الّتي مُورستْ ضدّنا أثمرتْ أمّـيّةً جماعيّةً في مجال المفاهيم العلميّة والفكريّة والسّياسيّة جعلتنا نعادِي كلَّ مشروع تقدّميّ بما في ذلك ما يحمي المجتمعَ المدنيّ ويحفظ حقوقَ الأقلّـيّات ويضمن حريّةَ المعتقد أيّا يكنْ.
أمّا الإسلامُ السّياسيّ فقد غذّى هذه الأمّـيّةَ بفضل ما يزخرُ به من فائضِ التّعصّب ومن نزعةٍ إقصائيّة للآخر الملحدِ والمؤمنِ والمسلمِ على حدٍّ سواءٍ. عساه يصفّي منافسيه بأقلّ التّكاليف. ولذا فإنّ أيَّ حكمٍ دينيّ في تونس لن يكون، حسْب اجتهاديّ، إلاّ نُسخا معدَّلة نسبيّا من "طالبان" أفغانستان أو "آيات اللّه" إيران. إنّ الدّينَ إذا سُـيِّس اكتسب طابَعا كُليانيّا تكفيريّا إقصائيّا كثيرا ما يُخرِّب ما يحوِيه من قيم إنسانيّة وأخلاقيّة عامّة. فإذا استقوَى بالمال السّياسيّ واستولى على العرش لن يُبقيَ من الحقوق المدنيّة والحرّيّات الفرديّة إلاّ ما يذرُّ بعضَ الرّماد على العيون العمْشاء. أمّا ما تعلنُه الأحزابُ الإسلاميّة من برامج انتخابيّة في حملاتها الإشهاريّة المتّقدةِ حماسا وتحرّرا وحداثةً فلن تخرجَ به من الورق إلى الواقع إلاّ مكفَّنا. وإنْ صدّقنا ما تدّعيه الأحزابُ في برامجها سنكون كمنْ صدّق "بيانَ السّابع من نوفمبر" الّذي أبّدَ صُنّاعَ "الانقلاب الأبيض" ومكّنهم من التهام الأخضر واليابس.
إنّ السّاسةَ هم آخرُ من يُمنَح صكّا على بياض لأنّ القولَ والفعلَ في تقاليدهم خطّان متوازيان لا يلتقيان إلاّ بيد إلاهيّة. فذاك حقيقةٌ "حِبريّة" [نسبةً إلى حِبر الكتابة]. وهذا مجازٌ واقعٌ في حيّز الحلم أو الوهم أو التّخييل. وشتّانَ بين الأمريْن. ثمّ إنّ تونس لم تكنْ يوما تركيا. وأحسبُها لن تكونها أبدا. فإن لزِم النّسجُ على المنوال التّركيّ ليكنْ تضمينُ "عَلمانيّة الدّولة" في الدّستور التّونسيّ المنتظَر صمّامَ الأمان الّذي يقينا رجوعَ الحكّام على أعقابهم وانقلابَهم على عهودهم.
فوزيّة الشّـطّي : تونس: 2011.09.18