إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

2012-04-21

حوار: مع جون فونتان، أفريل 2012


مع جون فونتان
[نُشر في الجريدةِ التّونسيّة: 'عُرابيا بتاريخ: 15 أفريل 2012]
حاورته: فوزيّة الشّطّي
    وُلد 'جون فونتان' في 2 ديسمبر 1936 بفرنسا. كَتب سلسلةً مِن المؤلّفات حول الأدب العربيّ عامّة والتّونسيّ مِنه خاصّة. نال الإجازةَ في العربيّة سنة 1968 مِن الجامعة التّونسيّة. شغل خطّةَ محافظ مكتبة 'معهد الآداب العربيّة' مِن 1968 إلى 1977. أشرف على مجلّة المعهد الّتي تحمل عنوانَ 'إبلا' مِن 1977 إلى 1999. نال دكتوراه الدّولة سنة 1977 مِن جامعة 'أيكس أون بروفنس'. عنوانُها 'الموتُ والانبعاثُ في أعمالِ توفيق الحكيم'. عرّبه الدّكتورُ والجامعيّ التّونسيّ 'محمّد قوبعة'.
  معه كان هذا الحوارُ:
-       أيُّ التّعريفات أقربُ إليك: الرّاهب؟ أم الكاتب؟ أم المواطن؟ أم ترى لك تعريفا أفضل؟
الإنسانُ الحرّ هو أفضلُ التّعريفات عندي.
-       مكتبةُ 'إبلا' ما بعد حريق 5 جانفي 2010: هل لملمتْ بعضَ جراحها؟
تكفّلت الدّولةُ بترميم الدّار الّتي عمرها 120 سنة. بعضُ الأجزاء تهدّمتْ تماما. المهمّ أنّ الأشغالَ متينة وإن ظلّتْ بطيئة. لذا قد نُعيد فتحَ المكتبة للعموم في سبتمبر 2012. أمّا ما يخصّ رصيدَنا فقد نشرنا في موقعنا على الأنترنات [www.iblatunis.org] قائمةَ 14 ألفِ كتاب المفقودةَ والصّادرة بين سنتيْ 1994 و2006. مَن يريد المساهمةَ في استعادة هذا الرّصيد، يطّلعُ على القائمة ليعرف ما عُوّض وما ظلّ ناقصا. اِستعدنا إلى الآن 4 آلافِ كتاب مِن فرنسا تبرّع بها أشخاصٌ ومؤسّسات، مِنها جامعة 'أيكس أون بروفنس' و'معهد العالم العربيّ' الّذي جمع كلَّ الكتب الممنوحة وجلبها إلينا على نفقةِ سفارة فرنسا بتونس. دارُ النّشر 'أليف' و'المركز الوطنيّ للتّرجمة' أعطيانا نسخةً مِن كلّ الكتب الّتي أصدراها. أمّا المجلاّتُ فكلّها متوفّرة بمكتبة الكونغرس الأمريكيّ في واشنطن. ستصوّرها لنا سفارةُ 'الولايات المتّحدة' بواسطة حاسوب كبير: Serveur، ستنفق فرنسا عليه. وكلُّ نسخة ستدخل الحاسوبَ برقمها الّذي كان لها قبل الحريق. الملحقُ الثّقافيّ لسفارة إيران منحنا حوالي 120 كتابا خاصّا بالشّيعة. أمّا الكتبُ التّونسيّة، وهي حوالي 4 آلاف، فستكون على ذمّتنا بعد أن يقع تنظيمُها وتوثيقها.
-       ما هي النّفقات؟ ومن هم المانحون؟
أعلمني رئيسُ قسم الحماية المدنيّة أنّه يجب الالتزامُ بالمواصفات الدّوليّة للأمان. وأهمُّ شرط هو الفصلُ بين الدّار والمكتبة. عندنا كلم واحد مِن الرّفوف. والمساحةُ في الأسفل صغيرةٌ لا تكفي هذا الكمَّ. لذا فالحلُّ الأمثل هو اعتمادُ رفوف متحرّكة على سكّة: Compactus، ثمنها 100 ألف دينار. وإعادةُ نظام الإعلاميّة للفهرس يكلّف 9 آلاف دينار. والمانحون هم: الاتّحادُ الأوروبيّ، المؤسّسةُ الملَكيّة الهولنديّة، الفاتيكان، مجموعةُ زوجات السّفراء، الألكسو، المواطنون.
-     أكان المدُّ التّضامنيّ مع المكتبة في مستوى الحاجات والتّوقّعات؟
كان فوق مستوى التّوقّعات بكثير. جاءنا 200 متطوّع مِن فئات وأعمار شتّى. بعضُهم لا صلةَ لهم بالمكتبة قبلا. أمضوْا ستّة أشهر مِن العمل المتواصل في تنظيفِ الكتب وتجفيفها وتجليدها. جاءتنا مواطنةٌ فرنسيّة مختصّة في تجليد الكتب القديمة. وكوّنت في 15 يوما فريقا متكاملا ما زال يعمل إلى الآن.
-     إلى أين وصل التّحقيقُ في الحادثة؟
أُغلق ملفُّ القضيّة في 30 مارس 2010. وجاء في قرارِ ختم البحث أنّ محافظَ المكتبة الفقيدَ كان وحده في مخزن الكتب وقتَ اندلاع الحريق. هذا ينفي وجودَ عمل إجراميّ. لقد كان قاضي التّحقيق محايدا وموضوعيّا. إذ لم يؤوّل نتيجةَ البحث.
-     بِم تفسِّر كثرةَ الشّائعات الّتي حِيكت حول الحريق؟
وقتَ الرّئيس السّابق لم تكن المعلومةُ الصّحيحة متوفّرة. وقلّةُ المعلومة عادة ما تُضخِّم الإشاعةَ. لذا تواصلت الشّائعات مع أنّ الشّرطةَ العدليّة نشرت بعد 5 أيّام مِن الفاجعة بلاغا بالعربيّة والفرنسيّة في عدّةِ جرائد، يُقرّ بأنّ محافظَ المكتبة هو مَن اشترى البنزين ذلك اليومَ وبأنّ آثار هذا السّائل قد وُجدت على ملابسه. هذا يُرجّح فكرةَ أنّه مَن أشعل النّار.
-     الإعلامُ الرّسميّ التّونسيّ تجاهل هذه الفاجعةَ الثّقافيّة والعلميّة. ما الأسبابُ في اعتقادك؟
لم أرَ تجاهلا. فالصّحافةُ المكتوبة الورقيّة والإلكترونيّة اعتنتْ بالحادثة. والموقعُ الاجتماعيّ 'فيسبوك' تناقل الخبرَ وساندنا. والإذاعةُ الدّوليّة دعتْ إلى زيارتنا والتّضامن معنا. أمّا ما كان يُسمّى 'قناة تونس7' فقد بعثتْ إلينا فريقَ التّصوير مرّةً واحدة. عموما قام الإعلامُ بدور كبير في جلب المدّ التّضامني مِن داخل تونس وخارجها.
-     باعتبارك راهبا أترى الانخراطَ في الحياة العامّة يُفسد الصّلةَ بالذّات الإلاهيّة؟
الرّاهبُ هو مَن يعيش في الدّير متفرّغا للعبادة منقطِعا عن النّاس. أمّا القسُّ فهو رجلُ دينٍ يمارس الحياةَ العامّة وينخرط في مشاكلها. أنا مِن الصّنفِ الثّاني. دوري أن أبيّن للنّاس أنّ ربّي يحبّهم وأنّهم يجب أن يحبّوا الآخرين. فدليلُ محبّة اللّه هي محبّةُ الآخر. ولا يمكن أن نحبّ اللّه إذا لم نحبَّ الآخر. وأعتقد أنّ متصوّفي كلّ الأديان يفكّرون بهذه الطّريقة.
-     اللّه: ما منْزلتُه في نفسك؟
ربّي في القلب. اللّهُ خلقني، وأحبّني لأنّه خلقني، وأرشدني إلى الطّرقِ الّتي تُرجعني إليه. أنا لا أشعرُ أبدا بالوحدة لأنّ ربّي دائما في قلبي.
-     كيف تنظرُ إلى مَن يبدّل دينه؟
قال القرآنُ: «اللّهُ يُنيرُ القلوبَ». فمَن يغيّر دينَه لا حقَّ لي في الحكم له أو عليه. أوّلا: لأنّي حرٌّ والآخرون أحرار أيضا. ثانيا: لأنّي أعتبر الفرقَ بين الدّين والإيمان كالفرق بين 'المهمّ والأهمّ' بعبارة الحبيب بورقيبة. الإنسانُ هو مَن صنع الدّين عقيدةً وطقوسا، واللّهُ هو مَن خلق الإيمانَ هديّةً مجانيّة للإنسان. إذن ربّي باقٍ، والدّين فانٍ.
-     هل تُفاضِل بين الأديانِ السّماويّة [اليهوديّة، المسيحيّة، الإسلام] وبين الأديانِ الوضعيّة؟
عندما أرى ما تسبّبتْ فيه الأديانُ السّماويّة مِن تطرّفٍ وعنف دمويّ وانعدام للحوار والتّواصل أقولُ لا فضلَ لها على غيرها. تاريخُ هذه الأديان الّتي باسمها قُتل آلافُ البشر كان، وما زال، دمويّا جدّا عبرَ القرون.
-     الكنيسةُ الكاثوليكيّة لم تعترف بعدُ لا بنبوّةِ محمّد ولا بالإسلامِ دينا سماويّا. ما السّرُّ في ذلك؟
عام 2000 ألقيتُ في الجزائر العاصمة محاضرةً قلتُ فيها «محمّدٌ نبِيٌّ» و«القرآنُ كتابٌ منزَّل». بعدها بعث الفاتيكانُ تنبيها إلى رئيسِ الآباء البيض في روما طالبا مِنه أن 'يُرجعَني إلى طريقِ الصّواب'. هذا الأخيرُ لم يكن مقتنِعا بموقف الفاتيكان. فكلّمني بلطفٍ وتشجيع. ويعود عدمُ الاعتراف إلى كونِ الكنيسة الكاثوليكيّة ترى أنّ الوحيَ انتهى مع موتِ آخر تلاميذ عيسى أي حوارِيه الإثنيْ عشرَ. الطّريفُ أنّ كلَّ نبيّ ادّعى أنّه خاتَمُ الأنبياء.
-     اِختار بعضُ التّونسيّين المسلمين التّخلّيَ عن دينهم للدّخول في المسيحيّة. حسْب علمِك أوَصل الأمرُ حدَّ الظّاهرة اللاّفتة للانتباه؟ وهل تتحمّلُ السّلفيّةُ المتطرّفة مسؤوليّةً في ذلك؟
لا أعتقد أنّ الأمرَ وصل حدَّ الظّاهرة. ففي تونسَ، حسْب علمي، انتمى ما بين 400 و600 شخص إلى مذهب الإنجيليّين. أغلبُهم بدّلوا دينهم لأنّهم اكتشفوا شخصيّةَ يسوع عن طريقِ الأناجيل الأربعة. بعضُهم اعترفوا بأنّ التّطرّفَ والضّغط المبالَغ فيهما كانا مِن أسباب الخروج عن الإسلام. بالنّسبة إليّ كلُّ الأديان طُرق إلى الرّبِّ بما في ذلك الوضعيّة مِنها. والدّعوةُ غير مقبولةٍ إطلاقا في هذا العصر.
-     باعتبارك مسيحيّا أتجدُ هذا الخيارَ مبرَّرا؟
الخيارُ أمرٌ شخصيّ يخصّ الإنسانَ وربَّه. ولا يحقُّ لي الحكمُ لهؤلاء كما لا يحقّ لي الحكمُ على أصدقائي الفرنسيّين الّذين دخلوا الإسلامَ. الدّينُ لا يهمّني، بل يزعجني لأنّه يدّعي احتكارَ الحقيقة. والحالُ أنّ في كلِّ دين جزءٌ مّا مِن الحقيقةِ الرّبّانيّة.
-     كثُرَ الحديثُ في العشريّةِ الأخيرة عن تسامح الأديان. أترى أنّ الأديانَ تعارفتْ بما فيه الكفاية حتّى تتسامح؟ وهل يمكن أن نتسامحَ مع مَن نجهل؟
التّسامحُ مسألةٌ مغلوطة لأنّه يعبّرُ عن عقدةِ تفوّق ويتضمّن احتقارا للآخر الّذي نتسامح معه. أنا أتحدّثُ عن المساواةِ بين الأديان. طبعا لا يمكن أن نتسامح مع مَن نجهل. فالتّعارف شرطُ التّسامح. وأُقرّ بأنّ الأديانَ لم تتعارفْ. فالمسيحيُّ يجهل المسلمَ بقدر ما يجهله هذا الأخيرُ. ثمّ إنّ الحروبَ لا تشجّع تعايشَ الأديان. فالرّئيسُ الأمريكيّ 'بوش الابن' استشار مسيحيّين متطرّفين حتّى يبرّروا له حربَ العراق 2003. إذن توظيفُ الدّين في السّياسة يجعل تعارفَ الأديان أوّلا والمساواةَ بينها ثانيا مطلبا صعبَ المنال. في 'روندا' مثلا قُتل 800 ألفِ مواطن مسيحيّ لأسباب عرقيّة. يصلّون في نفس الكنيسة ثمّ يتقاتلون. وقد ساهم بعضُ رجال الدّين في تأجيجِ هذا الصّراع الدّمويّ. المثالُ الأشهر أنّه في عيد ميلاد 1915، والحربُ العالميّة الأولى على أشُدّها، غنّى العدوّان الألمان والفرنسيّون عند منتصف اللّيل نفسَ الأناشيد الدّينيّة وخرجوا مِن الخنادق ليتصافحوا بحرارة ويتبادلوا التّهاني. ومِن الغد عادوا يتقاتلون بضراوة. أتساءلُ: ما دورُ الدّين إذا لم يستطع أن يحسّنَ العلاقات بين النّاس؟!
-     بناءُ المساجدِ في بعض الدّول الغربيّة صار 'قضيّة رأي عامّ' تشغلُ الإعلامَ والأحزابَ والمواطنين. ما تعليقُك؟
يُوجد خلطٌ بين 'المسلمِ: Musulman' وبين 'الإسلاميِّ: Islamiste'وهؤلاء يمثّلون جزءا صغيرا مِن المجتمع المسلم. أعتقد أنّ الجهلَ بالآخر المسلم هو السّببُ الرّئيس لهذا التّضخيم. ثمّ إنّ بعضَ ساسة الغرب يستغلّون هذه الأحداث في حملاتهم الانتخابيّة كما استغلّ 'روحُ اللّه الخميني' روايةَ سلْمان رُشدي «الآياتُ الشّيطانيّةُ» في حملته الانتخابيّة أحسنَ استغلال. وهذا ما يقع مع كلِّ الأديان. العقليّةُ ما تزال قروسطيّة. ما تزال الأديانُ متنافرة. بل المذاهبُ داخل الدّين نفسه ما تزال متناحرةً.
-     بعضُ المواطنينَ الغربيّين وقعوا في قبضةِ ما يُسمّى 'السّلفيّين الإرهابيّين'. ونالوا غالبا موتا شنيعا لا يليقُ بإنسانيّتنا. أتُراهم يدفعون ثمنَ التّعصّبِ الدّينيّ المستشري عندنا وعندكم؟ أم يكفّرون عن ذنوبِ أنظمتهم الّتي تنهبُ ثروات الشّعوب المستضعَفة بالغزوِ العسكريّ أو بالتّحالُف مع أنظمةٍ محليّة مستبدّة؟
الأسبابُ أكثر مِـمّا ذكرتِ. إنّ الأمورَ معقَّدة جدّا. حسْب رأيي كلّنا مسؤولون عمّا يحدثُ بدرجات مختلفة. بيد أنّ التّوظيفَ السّياسيّ البيّنَ في مثلِ هذه الجرائم يتحمّلُ المسؤوليّةَ الكبرى.
-     كتابُك 'جرحُ الحمارِ' الّذي نُشر سنة 1998 كشفَ رفقَك بالحيوان وتضامنَك معه في رحلةِ العذاب الّتي فرضها عليه البشرُ. لو حدّثتَنا عن فكرةِ الكتاب وعن سرِّ اهتمامك بالحمار دون سواه.
الحيوانُ يفهم مَن يفهمه. إنّه مخلوقٌ حيّ ساعد البشرَ مُذْ وُجدوا. حسْبنا أن نذكر الكلابَ الّتي تدلّ الضّريرَ أو الحيوان الّذي يرافق كبارَ السّنّ. لكنْ يسيء البشرُ إلى الحيوانات كما يسيئون إلى بعضِهم بعضا. أمّا قصّةُ الكتاب فتعود إلى سنة 1956 لَمّا كنتُ في الجبالِ التّونسيّة. هناك يُحدِث كلُّ فلاّح جرحا مفتوحا في كتفِ حماره يُسمّى 'الدّبرة'. الغايةُ أن يسرعَ الحمارُ بمجرّدِ مسّ الجرح بالعصا. إذن اخترتُ الحمارَ لأنّه قدّم للإنسان مساعداتٍ جمّةً ولأنّي لم أجدْ حيوانا مجروحا أكثر مِنه. أراه رمزا لكلِّ إنسان مجروح يريد أن يجد حلاّ. كنتُ أملكُ مجموعة خاصّة بالحمار جلبتها مِن شتّى الدّول الّتي زرتُـها، فيها 300 تحفة و1000 صورة و100 كتاب. أهديتُها إلى 'متحفِ الحمار' بفرنسا. في كتابي ذاك اعتبرتُ الحمارَ والمجنونَ والشّاعر والقدّيس همزةَ الوصلِ بين الإنسانيّة وربّي.
-     لو حدّثتَنا عن زيارتِك للمساجين.
طيلةَ ستِّ سنوات زرتُ في السّجون التّونسيّة مساجينَ مسيحيّين مِن 22 جنسيّة مساندةً أو نيابةً عن العائلة. كان القرارُ شخصيّا. والإدارةُ العامّة للسّجون أعطتني الرّخصةَ بلا عراقيل. هي تجربةٌ إنسانيّة استثنائيّة خاصّة مع الأفارقةِ الّذين يعطُون هويّةً مزيّفة ويفتقدون إلى الدّعمِ الأسريّ. سأنشرُ كتابا حول تجربتي مع هؤلاء المساجين.
-     زرتَ بعضَ قبائل الهنود الحمر. لو حدّثْتَنا عن هذه الرّحلة: دواعيها وفوائدِها وظروفِها.
تمّت الزّيارةُ بمحض الصّدفة. كنتُ في كندا شتاءَ 99-2000. وسمعتُ أنّ قريةً هنديّة في 'لابرادور' بأقصى شمال كندا ليس عندها قسٌّ يشرف على صلاةِ عيد الميلاد. فتطوّعتُ. المناخُ هناك قاسٍ جدّا. فدرجةُ الحرارة تتراوح بين 25 و35 تحت الصّفر. أحسستُ أنّ هؤلاء الهنودَ انتموْا إلى المسيحيّةِ لأنّهم توهّموا أنّ ذلك يُسهّل عليهم نيلَ الجنسيّة الكنديّة. لكنْ ما زالوا في أعماقهم مِن معتقد 'الشّمانيّة: Chamanisme' [عبادة الطّبيعة والقوى الخفيّة]. أوّلُ مَن يصطاد حيوانَ الأيّل في العام الجديد يصبح 'شمانا' أي همزةَ وصلٍ بين اللّه والقبيلة. يعتبرون نجاحَ الصّيّاد نعمةً ربّانيّة. هم في الأصل بدوٌ. شُرِط استقرارُهم حيث توجد قاعدةٌ عسكريّة لحلف 'النّاتو'. لذا تشتغل الهنديّات مومسات للجنود. وجدتُ الوضعَ الإنسانيّ لهذه القبيلةِ الهنديّة رديئا جدّا.
-     أترى الرّجلَ الأبيض مَدِين اليومَ بالاعتذار عن جرائمِ الإبادة التّي ارتكبها في حقِّ الهنود الحمر؟
في شمال كندا اُعطِيتْ للهنود ولايةٌ خاصّة. في شيكاغو أُقيم متحفٌ خاصّ بالحضارات الهنديّة. لكنْ ما حصل لهم جريمةٌ ضدّ الإنسانيّة لا يمكن أن تُغتفر. والاعتذارُ هو أقلُّ الأشياء وهو غير كاف. أنا أطالبُ بالتّعويض المادّي والمعنويّ لهؤلاء الضّحايا.
-     باعتبارك مواطنا أوروبيّا شارك أجدادُه في نكبةِ السّكان الأصليّين لأمريكا أينتابك الشّعورُ بالذّنب تجاههم؟
لا أستطيعُ أن أفهم لِم قتل أجدادي كلَّ هؤلاء النّاس. ولستُ أفهم لِم يقتل النّاسُ بعضَهم بعضا إلى الآن. أنا ضدّ العنفِ مهما تكن الأسباب. لذا عندي شعورٌ بالذّنب تجاه الهنود بما أنّي حفيدُ الغزاة. 
-     على هذا الأساسِ، أتقبلُ اعتبارَ نكبة الشّعب الفلسطينيّ جريمةً ضدّ الإنسانيّة؟
نعم. هي كذلك فعلا. كنت زرتُ الأراضيَ المحتلّة مرّتين. اِتّصلتُ هناك بالأدباء الفلسطينيّين. وجلبتُ الكثير مِن مؤلَّفاتهم. هناك يُوجد نوعان مِن الحافلات: الأوّلُ للسّيّاح، والثّاني للأهالي: Indigènes. ولأنّي أرفضُ رفضا مبدئيّا هذا التّمييزَ فقد ركبتُ النّوعَ الأخير. ثمّ إنّي رفضتُ المشاركة في ندوات علميّة جامعيّة تنظّمها 'إسرائيل'. أنا أعتبر الصّهاينةَ محتلّين دون وجهِ حقّ. وقبولُ دعواتهم يساهم في تبريرِ جريمتهم. لقد أرادوا استغلالَ كوني فرنسيّا مقيما في بلد عربيّ. لا يخفَى أنّ هذا الأمرَ مِن قبيل الدّعاية السّياسيّة.
-     ما الحلُّ الأنسب حسْب اعتقادكَ للصّراعِ العربيّ- الصّهيونيّ؟
أطلبُ مِن السّلطات الأوروبيّة تطبيقَ قرارات الأمم المتّحدة. فرنسا بقيتْ 120 سنةً في الجزائر، ثمّ خرجتْ. الآن يستحيلُ أن نطالبَ بمحو 'إسرائيل'. لكن على الأقلّ يجب احترامُ حدود 1967. أمّا حلُّ 'دولة واحدة ذات قوميّتين' فيتعارضُ مع الدّستور الإسرائيليّ الّذي يعتبر اليهوديَّ، أيّا يكنْ مكانُ إقامته، هو فقط المواطنُ الإسرائيليّ. ويظلّ المسلمون والمسيحيّون مواطنين مِن درجة ثانية.
-     النّظامُ السّياسيّ السّابق مارس القمعَ والفساد بكفاءةٍ عالية. هل أصابكم بعضٌ مِن شرِّه؟
كلاّ. تعاملَ معنا كما لو أنّنا غيرُ موجودين. الرّئيسُ السّابق منحني مرّتين 'وسام الاستحقاق الثّقافيّ'. وهو مَن قرّر ترميمَ الدّار. وأعانتْنا وزاراتُ الثّقافة المتعاقبة، إذ كانت تقتني مِن مجلّتنا نسخةً لكلّ مكتبة عموميّة. ودون طلب منّا نظّمت المكتبةُ الوطنيّة احتفاليّة بمناسبة 70 سنة مِن عمر مجلّتنا دشّنها وزيرُ الثّقافة آنذاك.
-     أشاعت بعضُ الأوساط أنّ الرّئيس الأمريكيّ 'باراك أوباما' هو مَن أشعل روحَ الثّورة في الشّعوبِ العربيّة رغبة مِنه في نشر الحريّة والدّيموقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة. ما تعليقُك على هذا 'التّحليل السّياسيّ
'الولاياتُ المتّحدة' تَعرف منذ خمسِ سنوات أنّ الأوضاعَ في الدّول العربيّة سيّئة. هذا لأنّ الباحثين الأمريكيّين ليستْ لهم أفكار مسبَّقة كالفرنسيّين. ربّما فرح 'أوباما' بالثّورات العربيّة. وقد تبنّاها بسرعةٍ نسبيّا، وشارك فيها إيجابيّا حسْب رأيي. سببُ الادّعاء أنّه أراد أن ينسبَ لنفسه هذا الفضلَ كما يفعل أغلبُ الزّعماء السّياسيّين. 
-     أمِن مصلحةِ الغرب أن يتهافتَ الطّغاةُ العرب؟
شيوعُ الدّيموقراطيّة في الدّولِ العربيّة يضمن المصالحَ الغربيّة بشكلٍ أفضل. فالعلاقاتُ التّجاريّة ستصبح أوسعَ وأكثر أمانا. ثمّ إنّ ارتفاعَ مستوى الحياة في تونس مثلا سيطوّر الاستهلاكَ. في كلِّ الأحوال سقوطُ الطّغيان يجعل العلاقةَ صحّيّة أكثر ويجعل الأرقامَ والإحصائيّات واقعيّة.
-     بِم تودّ أن نختمَ هذا اللّقاء؟
أودّ طرحَ السّؤال التّالي على المجلسِ التّأسيسيّ: «هل سيكونُ في الدّستور التّونسيّ الجديد مكانٌ لغير المسلمين بـمَن فيهم الملحدون وأتباعُ الدّيانات الوضعيّة؟».   
فوزيّة الشّطّي
تونس في: 2011.07.09

هناك تعليقان (2):

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

جون فونتان: قسّ وكاتب فرنسيّ مقيم في تونس منذ عقود أربعة على الأقلّ.

Faouzia Chatti فوزيّة الشّطّي يقول...

قضّيتُ مع القسّ الفرنسيّ "جون فونتان" المقيم بتونس منذ عُقود واحدة من أجملِ ساعتيْن وأثراها وأصدقها. والنّتيجةُ كانت هذا الحوار.