الإصلاحُ التّربويّ: إنقاذُ ما يمكن إنقاذُه
[نُشر في جريدة "عرابيا"، عدد 70، بتاريخ: 18 نوفمبر 2012]
يتطلّب الإصلاحُ التّربويّ الشّامل وقتا وجهدا
عظيمين ودراسةً ميدانيّة أعظم. وفي انتظار تحقُّق ذلك يجب العملُ على إنقاذ ما
يمكن إنقاذه من هذه المنظومة المتهرّئة المتآكلة المخرَّبة تخريبا قصْديّا ممنهَجا
متواتِرا لَم يكن النّظامُ السّياسيّ إلاّ طرفا مشرِّعا له، وتكفّلتْ باقي الأطراف
بأن تنفِّذ صاغِرة بل تزيدَ في الطّنبور نغمةً. وبحكم اختصاصي سأُدلي بدلوِي في
مادّة العربيّة بالمرحلتين الإعداديّة والثّانويّة معتمِدةً الأولى ثانوي نموذجا
لكونها السّنةَ الفاصلة الواصلة تختمُ إحداهُما لتؤسِّس الأخرى.
1- يحتاج المدرّسُ مساحةً
أكبر من الحرّيّة لكونه المباشِرَ للتّلاميذ والأدرَى بمواطن قوّتهم أو ضعفهم
والأعلمَ بما يحتاجون. لذلك من المنطقيّ العملُ على تقليص سلطة الإطار البيداغوجيّ
الّتي غالبا ما تُنظّر للمستحيل من شرفةِ برجها
العاجيّ وتلوِّح بيدها المبارَكة من سماء كنديّةِ الهوى أو بلجيكيّةِ الولاء. على هذا الأساس يجب أن يتحوّل النّقاشُ من سؤال المحاسبة: «كيفَ تفعلُ ما
لا حقَّ لك فيه؟» إلى أسئلة تشاركـيّة من قبيل: «لِـمَ فعلتَ هذا؟» أو «ما
الفائدةُ البيداغوجيّة منه؟» أو «ما مدى تفاعلِ تلاميذك معه؟»...
بناء على ما تقدّم سيحِقّ للمدرّس مثلا إصلاحُ
فرض المقال الأدبيّ في ساعتين: الأولى لإصلاح أخطاء المنهج والتّعبير المنتقاة من
تحارير التّلاميذ والثّانية للتّحرير الجماعيّ. وله أيضا، حسْب ما يجب أن تنُصّ
عليه «البرامجُ الرّسـميّة» الملزِمةُ، تخصيصُ حصص كاملة لإنجاز تمارين في اللّغة
والبلاغة. وهو أمرٌ يكاد يكون ممنوعا حاليّا في عدّة موادّ. فتنهال الدّروسُ، وتتراكم
فيها القواعدُ دون أن يحظى التّلميذُ بالقدر اللاّزم من التّطبيقات الّتي تشرح
الظّاهرةَ اللّغويّة أو البلاغيّة وترسّخها في الذّهن. وإذا أضفنا إلى هذا ضعفَ
مكتسبات الأغلبيّة الغالبة من تلاميذنا صار إدراجُ حصص التّمارين في البرامج
الرّسميّة ضرورةً تعليميّة وحقّا تربويّا للمعلّم والمتعلّم على السّواء. القول
بأنّ التّطبيقات الفوريّة المنصوص عليها حاليّا في حصص اللّغة والبلاغة كافية هو
مغالطة بل كذبةٌ "بيداغوجيّة" كبرى. فالحصّةُ لا تكفي عمليّا لمراحل
الدّرس الرّئيسَة، فكيف بالتّمارين الشّاملة المتنوّعة؟!
أجزم بأنّ إلغاءَ هذه الحصص التّطبيقيّة هو
أقسى الطّعنات الّتي أُغمِدتْ في جسد التّعليم العموميّ على أمل أن ينزفَ حتّى
الموتِ الزّؤام.
2- يجبُ أن يتّسع مجالُ
التّقييم ويتنوّعَ لأنّ النّمطيّةَ لم تُبقِ من معاني الامتحان إلاّ
"المحنة". كيف يُعقَل أن يكون المقالُ الأدبيّ الصّيغةَ الوحيدة الّتي
يُقيَّم بها تلميذُ الأولى ثانويّ ستَّ مرّات خلال العام الدّراسيّ؟ ولِـمَ
تُقيَّد تلك الصّيغةُ اليتيمة في النّوع التّحليليّ دون سواه [تُقدَّم للتّلميذ
أطروحةٌ مّا يُطلب منه تحليلُها]؟ أليس في العربيّة من رحابة الصّدر ما يجنّبُ
التَّكرارَ المخِلّ المقلق الّذي يقتل ملكةَ الإبداع ويُدمّر شخصيّةَ الكاتبِ
الطّفلِ ويقلّمُ أظافرَ المادّة ويسجن المدرّس في خانةِ «عدل التّنفيذ»؟
حرصا على التّنويع النّاجع أرى أنْ يكون الفرضُ
العاديّ من قبيل دراسة النّصّ الّتي تُنوّع النّصوصَ بقدر تنوُّع المحاور و الّتي توثِّق
صلةَ التّلميذ بمادّة الشّرح إعدادا وإصلاحا على أن يبقى المقالُ الأدبيّ خاصّا
بالفرض التّأليفيّ وأن تتطوّر صيغُ المواضيع نحو استفزاز ملَكات الممتحَن وتوسيع
آفاقه الذّهنيّة واستنفار آليّاته الكتابيّة. فالنّمطيّة الحاليّة صيّرتِ امتحانات
الإنتاج الكتابيّ مجرّدَ «محفوظة» تتوارثها نسبةٌ مفزعة من التّلاميذ، بل أجيال
منهم، يأتون بها جاهزةً لا بصمةَ شخصيّة لهم فيها. العقيدةُ السّائدة هي أنّ لكلّ
محور من كتاب النّصوص مقالٌ يتيم يُقال فيه كلُّ شيء دفعةً واحدة. كأنّما لمْ
يُبقِ «السّلفُ» للخلفِ من المقال الأدبيّ إلاّ شرفَ النّقل والنّسج على منوال مُستهلَك.
وما دامتِ الحالُ هذي لِـمَ تكبّدُ عناء الإبداع؟! ذاك هو الانعكاسُ الحتميّ
للعقيدة السّياسيّة الاستبداديّة المسبِّحة بحمد الرّأي «الواحدِ الأحدِ» الّذي لا
يُبلِيه الزّمانُ ولا يصبغُه المكانُ بألوانه المتجدّدة.
على هذا الأساس أقترح مواضيعَ تُسائل عقلَ
المتعلّم أكثرَ مـمّا تستنزِف ذاكرتَه المتخَمة من قبيل: «أيَّ الغزليْن تفضّلُ:
البدويَّ أم الحضريَّ؟ ولماذا؟» أو «بيِّنْ صلةَ شعر الغزل بشعورِ الحبّ» أو «أتصدّقُ
ما يدّعيه العاشقُ العذريّ؟» [محور الغزل]، «حاورْ دمنةَ في شأن دهائِه السّياسيّ
المهلِك» أو «لِـمَ تكثرُ المؤامراتُ في المجال السّياسيّ حسْبَ رأيك؟» أو «لو
عُيّنتَ مسؤولا سياسيّا ما يكون أوّلُ قرارا تتّخذه؟» [محور الحكاية المثَليّة]، «ما
الوطنيّةُ عندك؟» أو «أتؤمِنُ بدور الشّعر في تأسيس الأوطان؟» أو «اُكتبْ رسالةً
حرّة إلى وطنك» [محور الشّعر الوطنيّ]، «تحدّثْ عن التّجّار الجوّالين في مدينتك
مبيِّنا موقفَك من انتصابهم الفوضويّ» أو «حلِّلْ ظاهرةَ التّسوّل في بلادنا» أو «ما
العملُ لنقضيَ على الفقر في العالم؟»[محور الأقصوصة]...
العبرةُ من هذه النّماذج المرتـجَلة المنقوصة
هي تدريبُ التّلميذ أثناء الاختبار على أن يعلِن موقفَه الشّخصيّ ويُحسنَ صياغته
أوّلا وعلى أن ينمّيَ حسَّه الإبداعيّ وصدقَه الفنّيّ ثانيا. أمّا الاختباراتُ
النّمطيّة السّائدةُ الآن فهي أبعدُ ما يكون عن الإنتاج وأدنَى ما يكون إلى
"بضاعتُكم رُدّتْ إليكم".
3- يُدرَّس التّعريبُ في شعبة الآداب للسّنتين الثّانية والثّالثة. ويغيب في
ما سوى ذلك مع أنّ العربيّة صارتْ، بفعلِ الانهيار الحضاريّ الّذي نغرق فيه منذ
عقود، أحوجَ اللّغات إلى التّرجمة نقلا وتعريبا. وإذا أقصينا المدرسةَ من دور التّرويج
لنشاط التّرجمة هل من مؤسّسة أخرى تنوبها؟! تجربتي المتواضعة في تدريس هذه المادّة
العزيزة على قلبي أقنعتني بأنّ النّاشئة التّلمذيّة تحترم لغتَها الأمّ أكثر عندما
تراها تَتعامل مع لغة أوروبيّة تعاملَ النّدّ للنّدّ. فتعبّران عن المعنى الواحد
بأدوات ونُظم مختلفة، وتُنشئان فتنةَ الكلام بطقوسٍ بلاغيّة خاصّة جدّا. وإذا
علمنا أنّ ناشئتَنا تعيش أزمةَ تواصل مع لغة الانتماء الحضاريّ العريق تصل حدَّ الرّفض
والنّفور والاحتقار، كان ردُّ الاعتبار للعربيّة الفصحى واجبا وطنيّا وثقافيّا بلْ
ثوريّا. فقد ساهمت المنظومةُ التّعليميّة المرتجَلة في تعميق الأزمةِ تلك بجرّ
العربيّة إلى مرتبةِ لغةٍ ثانية أو ثالثة. وعليها الآن أن تكفّر عمّا اقترفت من
ذنوب في حقّ المشروع اللّغويّ العربيّ المحتضَر. عانيْتُ اعترافَ النّاشئة جَهارا
نهارا بلاجدوى تعلّم العربيّة في حصص الشّرح والنّحو وغيرها بقدر ما عايَنتُ تعجّبَهم
في حصص التّرجمة من كونِ لغتِهم مكافئٌ صلبُ العريكة متينُ السّليقة للغة الغازي
الفرنسيّ الغالبِ أمسِ والآنَ.
بالعودة إلى إحصائيّات
منظّمات عالميّة ندرك أنّ ما يُترجَم سنويّا في بلد صغير فقير كاليونان يفوق ما
تُترجِمه البلدانُ العربيّة مجتمعةً في المدى الزّمنيّ نفسه. تدعونا هذه المفارقة
الكارثيّة إلى تدارك الوضع بأسرع ما يمكن. وإدراجُ التّرجمة كمادّة إجباريّة في
كلّ سنوات المرحلة الثّانويّة بكلّ شعبها سيكون حسب رأيي من أفضل سُبل «تصحيح المسار
اللّغويّ» الّذي اختلّت موازينُه وارتبكتْ خطاه حتّى بانَ عقمُه. لن نكون بحاجة
إلى إثقال كاهِل المتعلّم بحصص إضافيّة. الأسلمُ أن نأخذ للتّرجمة حصّةً نصف
شهريّة من الحصص المخصّصة لمادّة التّواصل الشّفويّ. فلا يجوع الذّئبُ، ولا يشتكي
الرّاعي. لكن نرتِقُ بعضَ الثّقوب الفاضحة.
تتمثّل الخلاصة
المبدئيّة مـمّا سلف في أنّ تعديل الأرضيّة القانونيّة للعمليّة التّربويّة هو
شرطٌ لازم لكن غير كافٍ. ينبغي بالتّوازي مع ذلك مراجعةُ وسائل تكوين المدرّسين
مبتدئين كانوا أو راسخي قدمٍ. أمّا الانفتاحُ على وسائل الإعلام جميعِها وعلى
الجمعيّات المشتغلة بعلميْ النّفس والاجتماع وعلى المراكز الثّقافيّة المتنوّعة
المشارب فغنمٌ عظيم.
فوزيّة
الشّطّي
تونس: 2012.08.10
هناك 3 تعليقات:
حجمُ الفساد والاستبداد الّذي أصاب التّعليم العموميّ التّونسيّ في العهد السّابق كان مَهولا جدّا وأضرّ بكلّ القطاعات الأخرى لأنّه أخرج لسوق العمل المختنق الضّيّق الأفق "كفاءات" هشّة غير متوازنة هزيلة الطّموح.
ليس عند الثّلاثيّ الحاكم أيُّ مشروع تربويّ حداثيّ مجانيّ. لذا على مكوّنات المجتمع المدنيّ أن تأخذ بزمام الأمور غصبا عن السّاسة الظّلاميّين.
إذا أردتَ أنْ تُخرّبَ بلد وأن تدفعَ شعبا مّا إلى الانحراف الجماعيّ، فاضرِب شتّى مؤسّساته التّعليميّة في الصّميم حتّى تُصيبَ مِنه مقْتلا. إنجازٌ كهذا يُعفيكَ من كُلفة الحروب وضريبتها الثّقيلة دوما.
إرسال تعليق