أدبيّةُ
الخبر التّاريخيّ عند أبي بكر الصّولي
في الجزء 2 من "كتاب الأوراق": «أخبارُ الرّاضي باللّه والمتّقي للّه»
[نُشر في مجلّة "التّراثُ العربيُّ"، العددان: 134-135/صيف-خريف: 2014]
I- المدخل النّظريّ:
1-
حدُّ المصطلحات:
۱- الأدبيّةُ:
-
لغةً: الأدبيّةُ مصدر صناعيّ يتّصل بالاسم "أدبٌ"،
ويدلّ على معنى مجرّد هو مجموعُ الصّفات الّتي تجعل نصّا مّا أدبا.
- اِصطلاحا: الأدبيّة هي مجموعُ الخصائص الّتي إنْ
توفّرت في نصّ مّا انتمى إلى حظيرة الأدب. نعني الخصائصَ الجماليّة والفنّيّة والمضمونيّة
الّتي تحقّقُ مقصدَ الإمتاع لدى المتقبّل والّتي تعكِس نزعةَ الخلقِ والإنشاء عند
صاحب النّصّ.
۲- الخبرُ:
اِصطلاحا هو «وحدةٌ سرديّة
مستقلّة»[1]
غالبا ما تكون متنقّلةً. وهو، من حيث المحدِّداتُ البنائيّة، شكلٌ أدبيّ
مستقلّ بذاته. ومن حيث المحدِّداتُ المضمونيّة ينقسم الخبرُ نوعيْن: الأدبيّ الّذي
يهتمّ بتراجم الشّعراء وأخبارهم ومختارات أشعارهم، وفيه يتتبّعُ المخبِرُ
الشّخصيّةَ ذاكرا ما حفّ بها من أحداث دون أن يكون مُلزَما بالسّرد الخطّي. أمّا
الخبرُ التّاريخيّ فهو الّذي تدور أحداثُه حول شخصيّات تتحكّم مباشرة في مجرى
التّاريخ، نعني السّاسةَ. وعادةً ما يكون السّردُ الخطّي فيه ضرورةً يُمليها
تسلسلُ الأحداث السّياسيّة العامّة والنّزعةُ التّأريخيّة الغالبة على مصدر
الإخبار.
۳- نتائجُ حدّ
المصطلحات:
على أساس ما سبَق من تعريفات نُقِرّ
باقتصارنا على الجزء الثّاني من "الأوراقُ" المعنونِ بِـ: "أخبارُ
الرّاضي بالله والمتّقي لله". أمّا
الجزءُ الأوّل من "الأوراقُ" الّذي يحمل عنوانَ "أخبارُ
الشّعراء المحدَثين" فينتمي إلى أدب
التّراجم، إذِ اعتنى بأخبار هؤلاء مسجّلا بعضَ مختاراتهم الشّعريّة. وأمّا الجزءَُ
الثّالث من "الأوراقُ" وهو "أشعارُ
أولاد الخلفاء" فقد اقتصر تقريبا على
مختارات شعريّة لهؤلاء، وجاء ذكرُ السّاسة فيه عرَضيّا هامشيّا، ولم يَحْتفِ
بالحدث التّاريخيّ السّياسيّ والعسكريّ. وأمّا "أخبارُ
أبي تمّام" فيندج ضمن أدب التّراجم، إذ
انصبّ فيه الاهتمامُ على الشّخصيّةِ الرّئيسةِ الشّاعرِ المحدَث أبي تمّام حبيب بن
أوْس الطّائيّ.
2-
تعريفُ الصّوليّ:
هو أبو
بكر محمّد بن يحيى الصّولي المتوفّى سنةَ 335ﻫ، هو
أديب ومؤرّخ وشاعر ونقّادة. اِشتهر بلعب الشّطرنج، فتقرّب به إلى الخلفاء. نادم
المكتفيَ باللّه الخليفةَ العبّاسيّ 17، والرّاضيَ باللّه الخليفةَ العبّاسيّ 20، والقادرَ باللّه الخليفةَ العبّاسيّ 25.
تنوّعتْ
تصانيفُ الصّولي إلى الأخبار والمختارات الشّعريّة والشّعر جمعا وتدوينا وغيرِ ذلك
ممّا لم يصلْنا. ولكونِ الصّولي مُخضرما عاش
بين القرنين 3 و4 ﻫ، يُعتبَر ممثِّلا للطّور الانتقاليّ من
أطوار نُموّ الخبر وتطوّره. ففي تلك الفترة اشتدّ عضُدُ التّأليف والتّدوين
والكتابة أمام تراجُع سلطة المشافهة. لكن من باب المفارقات أنْ يظلّ المثلُ الأعلى
في مجال الأخبار مُستمَدّا من العصور السّابقة.
3-
تفكيكُ عنوان البحث:
"أدبيّةُ الخبر
التّاريخيّ عند الصّولي" عنوانٌ يقوم على
مصادرتيْن:
أولاهما وجودُ الخبر التّاريخيّ في مدوّنة
الصّولي الأخباريّة. وهو خبرٌ ذو سند مرجعيّ وخلفيّة واقعيّة، يحقّق مقصدَ الإفادة
والإخبار، يَدّعِي أنّه مُشاكِلٌ للواقع مُهتمٌّ بالجانب الحدَثِيّ منه بالأساس
مُلتزمٌ بشروط الصّدق والحياد والموضوعيّة.
ثانيةُ المصادرتيْن اتّسامُ هذا الخبر
بالأدبيّة. فليستْ أخبارُ الصّولي هذه تاريخا مَحضا. إنّما يُخفي ظاهرُ التّاريخيّ
منها حقيقةَ الأدبيّ فيها.
بناءً على ذلك تكون محاورُ الاهتمام هي
الآتية:
-
ما مظاهرُ الأدبيّة في الجزء 2 من "الأوراقُ"؟
- علامَ يدلّ حضورُ الأدبيّة في نصّ يزعم أنّه من التّاريخ؟
- فيمَ تتمثّل خصوصيّةُ الصّولي "الأدبيّةُ" في صنف الخبر التّاريخيّ هذا؟
II- مظاهر الأدبيّة في الخبر التّاريخيّ:
نُركّز
الاهتمامَ على "الخبر الواحد"
لكونِ الخبر وحدةً سرديّة مستقلّة متنقّلة، ويستطيع أن يمثّل نصّا مغلَقا مكتفِيا
بذاته شكلا ومضمونا. ونستدلّ على صفتَيْ الاستقلال والتّنقّل بقول د. محمّد
القاضي: «يقول [يعني المستشرق الألمانيّ ستيفن ليدر: Stefen Leder]: "يُمثّل الخبرُ عنصرا متحرّكا،
يمكن اعتبارُه وَحدةَ قيسٍ. إنّه ليس جزءا مُكوِّنا لتأليفٍ كامل شامل. ولا يعني
غيابُه بالضّرورة نقصا في الاختيار. ولا يُغيّر هذا الغيابُ شيئا من خصائص
الاختيار". ومأتَى الطّرافة في هذا القول
أنّ الخبرَ، وإن كان وحدةً من الوحدات الّتي يتكوّن منها أدبُ الاختيار، فإنّه ليس
عنصرا لا معْدَى عنه، بدونه تنكسرُ وحدةُ المؤلّف ويعتريه الخللُ. ولعلّ سببَ ذلك
أنّ الخبرَ اتّسم بسمةٍ مخصوصة هي أنّه قادرٌ على الحركة»[2]. لكنّ التّركيزَ على الخبر الواحد المستقلّ لن يمنعَ
تناوُلَ الأخبار باعتبار ما بينها من تجاوُر وتضامُم وتكامُل كلّما تطلّبَ البحثُ
ذلك.
1-
الأدبيّة في مستوى البنية:
نهتمّ
بالبحث في مدَى بساطة البنية أو مدَى تركيبها:
۱- خصائصُ السّند:
ظلّت هذه الثّنائيّةُ
خصِيصةً رئيسة للخبر مطلقا، أدبيّا كان أو تاريخيّا، لأنّ الخبرَ مادّةٌ مشاعةُ
الملكيّةِ تتعاورُها الرّواياتُ قبل أن تُدوّن في مؤلّف مّا. وكان السّندُ خصيصةً
ظاهرةَ الحضور في الحديث النّبويّ والفقه كما في الأدب والتّاريخ. في دلالة حضوره
يقول د. محمّد القاضي: «الإسنادُ عمليّةٌ يقوم
بها الرّاوي تتمثّل في إنشاء خيطٍ واصِل بينه وبين مصدر الخبر. وهذا الخيطُ هو
السّندُ»[3].
فكيف تجلّى سندُ الأخبار
التّاريخيّة الّتي رواها الصّولي في الجزء 2 من "الأوراقُ"؟
* السّندُ الافْـتتاحيّ:
بعد البسملةِ وذكرِ العنوان "أخبارُ
الرّاضي بالله" جاء ما يلي: «قال أبو بكر محمّد بن يحيى الصّولي: قد فرغنا وللّه
الحمدُ من ذكر أخبار...»[4].
ثمّ يأتي المتنُ. تردّد هذا السّندُ الافتتاحيّ نفسُه في مستهلّ "أخبارُ المتّقي لله"[5].
أي يُقدّم الصّولي نفسَه باعتباره مصدرَ أخبار الكتاب لا مجرّدَ حلقةٍ ناقِلة من
سلسلة السّند. ونُلفتُ الانتباهَ إلى أنّ ذكرَ المؤلّف اسمَه في بداية السّند
تقليدٌ مألوف سادَ خاصّة قبل القرن 4 ﻫ في المؤلّفات
القديمة. [تردّد ما يعادل هذا الإثباتَ في "أخبار
أبي تمّام" وفي الجزء 1 من "الأوراقُ": «قال أبو بكر...
قال الصّولي...» وسطَ الكتابيْن، وغاب من
مُستهلّ كلّ منهما. لكن وجدنا نفسَ الإثبات تقريبا في بداية الجزء 3: «قال أبو بكر محمّد بن يحيى بن عبد اللّه بنُ
العبّاس الصّولي: قد فرغنا...»].
* الأسانيدُ
الدّاخليّة:
نلاحظ أنّ السّندَ في
غضون "الأوراقُ" شبهُ غائب وأنّ الجزءَ 2 خاصّة جاء شبهَ خالٍ
من الأسانيد. ولنا أن نتساءل: أيعود ذلك إلى أنّ الصّولي كان مُعايشا للأحداث
مُعاصِرا للشّخصيّات السّياسيّة الّتي أخبر عنها؟ أم هل يكونُ إهمالُ السّند
مقصودا دافعُه التّكتّمُ على مصادر الأخبار لحماية قائليها؟ والدّليلُ أنّنا نجد
ما يُشبه التّعميةَ في تحديد السّند. فقد اعترف الصّولي في "أخبارُ سنة ستٍّ وعشرين وثلاثمئة" في سياق استرجاعه لخبرٍ له مع الوزير ابن
مُقلةَ قبل خلْعه، بأنّه كان غائبا عن الواقعة دون أن يُصرّح بمصدر الرّواية
الأوّل. يقول: «[...] منها أنّي مدحتُه بقصيدة ما مُدح بمثلها قطّ. فما استمعَ الشّعرَ منّي،
فأنفذْتُه على يد أبي بكر بن الخيّاط النّحويّ. فلمّا قرأه قالا [ابْنا المنجّم،
وهما من جُلساء ابن مُقلة ومن أعداء الصّولي] له قد هجاك في
القصيدة [...] فقال ابنُ
الخيّاط إنّما عنَى الرّجلُ ما على الأرض ما بقي أحدٌ مدَحكم قبلي. ولم يقلْ ما
تحتَ الأرض. وأعانه أبو عبد اللّه أخُو الوزير، وناظر فيه على حقّ وصواب. وهو لا
يسمع إلاّ قولَهما. قال: فلم يكنْ لنا حيلةٌ...»[6].
إلى مَن أُسند فعلُ "قال"
هذا؟ هل المخبرُ هو ابنُ الخيّاط أم أبو عبد اللّه؟ السّياقُ يرجّح الأوّلَ ولا
يُقصي الثّانيَ. والأهمّ من ذلك: لِم السّكوتُ عن التّخصيص؟
نلاحظُ أيضا حضورَ الحدّ
الإسناديّ الأدنى، كأنْ يكتفيَ الصّولي بذكر أصل الخبر. يقول مُستبِقا الحدثَ: «ثمّ حدّثنا الرّاضي بعد ذلك قال: كان
الفرسانُ الّذين رأيتمُوهم بالثّريّا قد عزمُوا على الفتك بنا [...]»[7]. فالرّاوي الأصليّ هنا هو الشّخصيّة الرّئيسة في هذا الخبر كما في الكتاب.
وأضفى حضورُها باعتبارها موضوعَ الخبر ومصدرَه، مصداقيّةً لا على الخبر المذكور
فحسبُ بل على الخبر السّابق الّذي رواه الصّولي نفسُه.
نجدُ الصّولي يُخفي
المصدرَ دون تبرير الإخفاء. من ذلك: «ولقد حدّثني
بعضُ الخدم أنّ أحمدَ بن يحيى المنجّم ثلبنِي عنده [الرّاضي بالله] فقال له: أمسِكْ
عن هذا [...]»[8]. ثمّ يتواصل الخبرُ في بيان المكانة المتميّزة الّتي يحظَى بها الصّولي
عند الخليفة. لذا قد يكون إخفاءُ المخبِر حمايةً له من عقاب الثّالبِ المزعوم.
ويحدُث أن يأتيَ السّندُ
المبهَم في أواخر الخبر الّذي افتتحه الصّولي كالآتي: «ومن
ذلك ما ظهر منه [الرّاضي بالله] في آخر أيّامه عند موتِ زيْرك القاهريّ، ثمّ عرف حالةَ ما خلّف. فقال:
اِرفعوه إلى فلانٍ يتصدّق به [...] فقال لي بعضُ الجلساء، وقد حدّثنا الخدمُ بهذا: أتُراه يَأمل
اجتماعا معه في الآخرة حتّى يخدمَه؟! فقلتُ له: حسبُك من الكلام في هذا. فقال:
واللّهِ ما تكلّمتُ حتّى أبلغَ مُنًى. وزعم الخدمُ أنّه خلّف عيْنا وورقا
وطِيبا وجواهرَ وبلّورا وثيابا ودوابّ وسُروجا ومناطقَ، بقيمة مائة وخمسين ألف
دينار. فما أخذ منه إلاّ العينَ والورق. وكانا أقلّه»[9].
لقد أُسند الخبرُ إلى مجاهيل، وجاء الرّاوي الأصليّ مرّتيْن في موقعٍ "شاذّ"
من الخبر.
يتواصل غموضُ السّند في "أخبارُ المتّقي بالله". أحصينا من أدلّة ذلك ما يلي:
«وحدّثنِي من أثِق به من التّجّار...»[11]
«ووَرد الخبرُ بدخول أبي الحسين...»[12]
«وتحدّث النّاسُ بأنّ الوزيرَ البريديّ عازِمٌ على...»[13]
«وحدّثتنِي جماعةٌ من التّمّارين أنّ ناصرَ الدّولة خاطبهم...»[14]
«ولقد حدّثنِي بعضُ الخدم أنّ بعضَ الرّؤساء قال للمتّقي...»[15]
«ولقد حدّثنِي بعضُ الخدم مِمّن أثِق به أنّ المتّقيَ بالله...»[16]
نُعلّل ضمورَ الأسانيد
بأنّنا مع الصّولي نتنزّلُ في مرحلة متقدّمة من تطوّر الخبر. فمن الطّبيعيّ أن
تتراجعَ سلطةُ الرّواية الشّفويّة متمثِّلةً خاصّة في تقنية الإسناد دون أن تستطيع
سلطةُ الكتابةِ النّاشئةُ الإمساكَ بزمام الأمور. أمّا حضورُ المجاهِل في السّند
فربّما يعود إلى كونِ الإسناد مصنوعا لا منقولا: إذ دخلتْه الصّنعةُ حتّى غدا جزءا
لا يتجزّأ من الخبر، بل أصبح هو الآخرُ موضوعَ إنتاج أو إعادةِ إنتاج. ولأنّ
أخبارَ صاحبِنا تمثّلُ المرحلةَ الانتقاليّة (ق3 وق4ﻫ) فقد حافظتْ على بعض ما كان لها من مرونةٍ وقدرةٍ على الإفلات من التّقعيد
والتّقنين. هي بذلك مظهرٌ من مظاهر تواصُل المشافهة في سُنن التّأليف، وإنْ غابت
أو كادتْ، من وسائل نقلِ المعرفة. في هذا الشّأن يقول د. محمّد القاضي: «لا شكّ أنّ المشافهةَ والتّدوينَ ما زالا في اصطراع
في مجال الخبر إلى ق4ﻫ. وهذا دليلٌ على
أنّ التّدوينَ لم يُهيمنْ بعدُ على المشافهة هيمنة تضعُ لها حدّا نهائيّا»[17].
صار السّندُ إذنْ، في عصر الصّولي أقربَ ما يكون إلى "السّنّة
الأدبيّة" وأبعدَ ما يكون عن الإحالةِ على
مرجعيّة مّا.
مع هذا "الضّمور الإسناديّ"
لم نُعدِمْ وجودَ أسانيد طويلة السّلسلة. تكرّر ذلك خاصّة عند استعراض الأحاديث
النّبويّة. من ذلك قولُ الصّولي في سياق تهنئة الرّاضي بالخلافة: «[...] قلتُ: حدّثنا
إبراهيمُ بن عبد اللّه النّميريّ قال حدّثنا حجّاجُ بن منهال عن المبارك بنِ فضالة
عن الحسن عن أبي الحسن عن عبد الرّحمان بن سُمرة قال: قال لي رسولُ الله...»[18].
جاء هذا الحديثُ النّبويّ المسنودُ بعناية في سياق وعْظيّ حِجاجيّ، ألحّ الصّولي
على تأكيد أثره "الفوريّ السّحريّ" في حديثِ العهد بالخلافة.
يستعرض الصّولي سلسلتَيْ
سندٍ للحديث النّبويّ بِمتنيْن مختلفيْن أثناء إحدى الحوارات المتوتّرة في مجلس
المتّقي بالله، حتّى يثبِت أنّه أعلمُ الحاضرين ويُبكّتَ من سعى إلى تخطئته عامدا:
«[...] فقال له [المتّقي لله] بعضُ من كان
عنده وهو اليومَ ببغداد: هذا [الحديث النّبويّ] مشهورٌ عن عامر. فقلتُ: أعزّ اللّهُ الوزيرَ لا تلتفتْ إلى قولِ من لا
يدري. حدّثنِي عونُ بن محمّد الكنديّ قال حدّثنا عمرو بن عون قال أخبرنا عبدُ
الله بن مبارك عن عبد الحميد بن صفيّ عن أبيه عن جدّه عن صَهيب قال: قدِمتُ على
النّبِيّ [...]. وحدّثنِي عونٌ قال حدّثنا يعقوب بن محمّد قال حدّثنا عاصم بن سويد عن ابن
اسماعيل بن مجمع عن عبد الحميد بن زياد بن صهيب عن صهيب قال جئتُ النّبِيّ [...]»[19].
ضُمِّن الخبرُ في سياق حجاجيّ
دفاعيّ. فالمتّقي لله كان، حسْب الصّولي، يتعمّد نبزَه والقدحَ في عِلمه مُستعينا
ببعض جلسائه المنافسين الحاسدين. لذا يُعتبَر استعراضُ السّندين افتخارا ضمنيّا
بسَعَة المعرفة وقوّة الذّاكرة. ولَمّا طُلب منه دليلٌ مكتوب على متانة حجّته ردّ:
«ما معي أصلٌ»[20].
فما زال الصّدورُ عن الذّاكرة أمرا محمودا ممدوحا ومجالَ تفاخُرٍ وتفاضُل بين
العلماء، رغم أنّ الكتابةَ صارت منافسا شرعيّا يُعتدّ به.
۲- حركةُ المتْن:
تتبّع الصّولي الأحداثَ
التّاريخيّة حسب ترتيبها في الزّمان. فجاء السّردُ خطّيّا في الأغلب. بدأ الجزءُ 2 من "الأوراقُ"
بأخبار الرّاضي بالله الخليفةِ العبّاسيّ العشرين (322-329ﻫ) وانتهى بأخبار أخيه المتّقي لله الخليفةِ العبّاسيّ الحادي والعشرين (329-333ﻫ). الأوّلُ مات مريضا وقد استبدّ بالحكم وزيرُه أمير الأمراء "ابن رائق"
وضعُفت سلطةُ خليفة بغداد. والثّاني فرّ أمام هجمات "البريديّ"[21]
ولجأ إلى الموصل ومات سجينا بعد أن اعتقله توزون القائدُ التّركيّ وسَمل عينيْه.
* البُنَى البسيطة: قامت متونُ
أغلب الأخبار على حركةٍ واحدة. منها:
-
ما يقومُ على الاستخبار
والإخبار: يكثر هذا الصّنفُ في مجالس الصّولي مع الرّاضي خاصّة الّذي تبادل
السّؤالَ والجوابَ مع الأخباريّ في مسائل أدبيّة وسياسيّة وذاتيّة.
- ما يقوم على الطّلب والاستجابة: من نماذج
هذا الصّنف أن يلبّيَ الصّولي دائما "طلبَ" إنشاد بعضِ شعره مُستجيبا استجابةً فوريّة
تعبّر عن رغبته في نيْل الاعتراف بِـ "فحولة
شعريّة" لم يقفِ الحظُّ إلى صفّها.
- ما يقوم على الفعل وردّ الفعل: وهو نوعٌ
من البُنَى البسيطة ساد في هذا الجزء لأنّ الفترةَ الّتي يؤرّخ لها الصّولي هي
فترةُ اضطراب وفوضى واصطراع بين أطرافٍ عدّة: الدّيلم مع الفُرس، السّاجيّة
والحجريّة مع التّرك، البريديّون مع حكّام البصرة، القرامطة مع الإسماعيليّة،
الخلافة العربيّة مع الموالي المنخرطين في صُلب الدّولة... وكثيرةٌ هي الأخبارُ
الّتي سردتْ عمليّات انتقاميّة من طرف أشخاص أو جماعات كردّ فعل على أذًى سابق
خاصّة في عهد المتّقي لله. فقد ثأر الدّيلمُ لأنفسهم من المذبحة الفضيعة بنهب
الدّيار وترويع أهلها، وكان الصّولي من ضحاياهم رغم إدانتِه ما كانُوا تعرّضُوا له.
* البُنَى المركّبة: يُظهرُ الخبرُ التّاريخيّ بدايةَ نموّ البنى المركّبة. أمّا طرقُ
التّركيب فمتنوّعة. منها:
- التّركيبُ بالنّظْم: وهو أن تتتالى أخبارٌ تضطلع بالبطولة فيها
شخصيّةٌ واحدة. حضر هذا عند استعراض أخبار كلّ من الرّاضي والمتّقي. من شواهدِ
ذلك: «ذكرُ رجوع الأمير أبي الوفاء إلى داره»[22]
أو «آخرُ أمر المتّقي للّه»[23].
وهي أخبارٌ كثيرة البساطة، الخيطُ الرّابط بينها هو الشّخصيّةُ الرّئيسَة والحيّزُ
الزّمانيّ.
- التّركيبُ بالتّضمين: وهو أن يُوجد خبرٌ إطار وخبرٌ مضمّن. فخبرُ
نهاية أمر المتّقي تضمّن خبريْن أوّلُهما مُعمّى السّند: «جاءت
الرّواية أنّ عمرَ الحادي والعشرين من الخلفاء أقلّ من ثلثي عمر الّذي كان قبله
وأكثر من نصفه، فكان كذلك». وصُرّح في ثانيهما
بالسّند الكتابيّ: «قال بليناس: اُنظرْ إلى
سرّ غامض في الكسُوفات، إذا كانت الشّمسُ في الميزان، ووقع كسوفُ القمر، وهو في
الحمل، وزحل في السّرطان والمرّيخُ في الجدي هلك ملِكُ بابل»[24].
وقد
خَدم التّضمينُ رأيَ الصّولي في الخليفة وأكّد "صدقَ
توقّعاته" الّتي كان كشفها في موضعٍ سابق
من الكتاب. إذ قال عندما أبلغه بعضُ الخدم رفضَ المتّقي الجلساءَ [ومنهم الصّولي]: «[...] فقلتُ لهم: لئن كان هذا الأمرُ كما زعَمتم، فإنّه ردِيء
لنا وردِيء لكم. وأعظمُ الأمر أنّه ردِيء على الخليفة وعائدٌ بخلاف ما يهواه
ويُقدِّره. فما زال بعضُ الخدم يقصِدني ويقول لي كان الأمرُ كما قلتَ لنا»[25].
نلاحظ
في أخبار الصّولي هذه تجاوُبا بين البنَى البسيطة الّتي هي السّمةُ الأوّليّةُ من
طور المشافهة وبين البنَى المركّبة الّتي تُمثّل السّمةَ الأكثرَ اتّصالا بطور
الكتابة. وإنْ كانت الغلبةُ الكمّيّة للبنَى البسيطة فلأنّ الصّولي يجسّد المرحلةَ
الانتقاليّة من تطوّر الخبر. وقد عكس تطوّرُ الخبر "كِفاحَ" هذا الشّكل الأدبيّ رغبةً في أنْ يستويَ
جِنسا أدبيّا قائمَ الذّات [دون أنْ يتحقّقَ له ذلك لاحقا]. يُعتبَر هذا النّزوعُ نحو التّركيب صورةً من سعْيِ الخبر
إلى الاقتراب ما أمكنَ من المنظومة الكتابيّة مُحاوِلا مفارقةَ مقامِه الأصليّ
الّذي هو البنيةُ السّرديّة البسيطة والمتحوّلة.
2-
الأدبيّة في مستوى الخطاب:
لكونِ الجزء 2 من "الأوراقُ" سردا
لأخبار تاريخيّة كان يُفترَض أن يكون الخطابُ جافّا مُقتصدا علميّا "موضوعيّا" (أيْ
يلتزم فيه الرّاوي المخبِرُ الحيادَ). فكيف
جاء خطابُ الصّولي في خبره التّاريخيّ هذا؟
۱- أساليب القصّ:
* أسلوب
السّرد:
نَزع المتأخّرون إلى
رواية أخبارهم دون أسانيدها مُركِّزين الاهتمامَ على المضمون الحدَثيّ. لذا وجدنا
السّردَ أكثرَ الأساليب حضورا في الجزءِ 2 الّذي استعرضَ أحداثا
تاريخيّة متلاحقة وَسمتْ عهديْ الخليفتين العبّاسيّيْن الرّاضي والمتّقي. إذ
تتالتْ أخبارٌ سرديّة عديدة لا تمثيلَ فيها ولا حوارَ ولا نقْلَ أقوالٍ. من ذلك أنْ
تُسردَ أحداثٌ وقعتْ بعد قدوم الرّاضي بغدادَ بشخصيّات ومواضيع متنوّعة[26]
الرّابطُ الوحيدُ بينها هو عهدُ الخليفةِ المذكورِ زمانا وعاصمتُه مكانا.
ويبدو السّردُ في الظّاهر
ضامِنا لأمانة النّقل وصدقِ الحياد، لأنّه يكاد يُغيِّب الرّاويَ - الكاتبَ الّذي
صار يؤدّي دورَ النّاقل. وهذا يُطابق، ظاهِرا على الأقلّ، ما كان للأخبارِيّين من
مَقام ووظيفة. لكن، حتّى والأسلوبُ سردٌ كثيرا ما يقطع الصّولي سيرورةَ الأحداث
التّاريخيّة مُعلِّقا عليها كاشفا بعضا من ذاتيّة السّارد. مثالُ ذلك أنّه قطعَ
سردا مُطوّلا لوقائع سياسيّة وعسكريّة جرتْ سنةَ إثنتيْن وثلاثين وثلاث مئة (332ﻫ) من عهدِ المتّقي للّه ليقول في انفعال عاطفيّ: «سُبحانَ
الله. ما أعجبَ أمرَ البركة والحظوظ! هذا أبو جعفر محمّد بن يحيَى بن شيرزاد، ما
كتب لأحدٍ قطّ إلاّ بلغ أعلى المراتب وأجلّ المنازل. ما زال جَدُّ ابن الخال يعلُو
ما دام يكتب له. فلمّا تركه أدْبر وانحلّ أمرُه. وكَتب لِبجْكم، فبلغه ما لم يبلغْ
أميرٌ من المال والهيبة وأصلح له قلوبَ أصحابه. وكَتب لتُوزون، فبلغ به ما لم يظنّ
النّاسُ أنّ توزون يبلغُه أبدا»[27].
ثمّ يستأنف سردَ ما كان فيه.
هذا التّعليقُ دالّ من
جهتيْن: أُولاهُما أنّ الصّولي الأخباريّ "المؤرّخ" لا يكتفي بالنّقل، إنّما يتفاعل مع الأحداث
المرويّة سلبا وإيجابا ويُصرّح بهذا التّفاعُل. ثانيتُهما أنّ الذّاتَ المؤلِّفة (والكاتبةَ أيضا بما في الكتابة من خلق وإنشاء
وتَبنٍّ للنّصّ المقُول) تُعبّر ضِمنيّا عمّا
بنفسها من الحسرة: فالصّولي لم يبلغْ ما بلغ "أبو
جعفر الكاتب" من مكانة عند أُولِي الأمر
لا لتفاوُتٍ في الموهبة أو الكفاءة العلميّة، إنّما لتَقابُل في الحظوظ لا غيرَ.
يقطع الصّولي سردَه أخبارًا
تتنزّلُ في بداية انهيار الخليفة المتّقي لله ليتحدّث عنه مُستنكرا سوءَ تدبيره: «وأعجبُ من ظنِّه بأنّه لا ذنبَ له ونسيانِه ما
فعله: ذهابُ الرّأي عن جميع مَن معه مِمّنْ يُدبّره. وما ذهب على العُقلاء ولا على
أهل الرّأي. فلقد رأوْا الّذي فعله الأميرُ بالرّأي قبل كوْنِه»[28].
وهذا تعليقٌ صريحُ الدّلالة على "انفلات" ذاتيّة الرّاوي من عِقالها. فقد اتّهَم
المتّقي بأنّه قرّب عديمِي الرّأي والعقل وتجاهَل العقلاءَ النّاصحين الخلّصَ (من أمثال الصّولي طبعا).
ثمّ يفخرُ بصدقِ قراءته الاستِباقيّة "التّنبّئيّة" لمصير الخليفة فخرا يشِي بالشّماتة الصّامتة،
إذ رأى بالبصيرة ما سيلقَى المتّقي من سوء المصير. والمعنى المسكوتُ عنه في هذا
التّعليق: لو قرّبنِي الخليفةُ لما كان هذا شأنَه! فامتزج التّشفّي من "الخصم"
المتعالي بالتّحسّر على الذّاتِ المهمَلةِ مواهبُها.
* أسلوب التّمثيل:
جاء في المعاجم
اللّغويّة: «مثّل الشّيءَ لفلان: صوّره له
بالكتابة ونحوِها حتّى كأنّه ينظر إليه». أمّا
التّمثيلُ في هذا السّياق الأخباريّ فأداتُه الرّوايةُ الشّفويّة. ويُعرّف د.محمّد
القاضي أسلوبَ التّمثيل قائلا: «هو المدخلُ
الرّئيسيّ للخبر. ذلك أنّ الرّاويَ الأخير ينقلُ لنا ما حدّثه به الرّاوي
السّابقُ. وهذا بدوره ينقل لنا ما سمعه من الرّاوي الأسبق. وهكذا دواليْك إلى أن
نصلَ إلى أصل الخبر، أي العوْن السّرديّ الّذي اضطلع بالتّلفّظ الأوّل. فمهمّةُ
الرّاوي الأخير - في الظّاهر- منحصرةٌ في إبلاغ القارئ أو السّامع حديثَ الرّاوي الأوّل. أمّا الحقيقةُ
فهي أنّ تنقّلَ الخطاب راوٍ إلى آخر يؤدّي حتما إلى تغيّره»[29].
لكن وجدنا هذا الأسلوبَ نادرا جدّا في الجزء 2 من "الأوراقُ"
لِما بيّنّا من الغياب شبهِ التّامّ لسلسلة المحدِّثين الممثِّلين. فروايةُ
الصّولي ما عاش وعاين غالبةٌ على روايتِه ما سمِع. لذا كثيرا ما اضطلعَ بِـ "التّلفّظ الأوّل".
من أمثلة ذلك سردُه مواجهةً بين أمير الأمراء المخلوع "محمّد
بن رائق" وبين أمير جيوش المتّقي "كورتكين الدّيلميّ"
سرْدَ شاهد العِيان: «[...] وهذا كلّه بين يديّ وأنا أراه مِن داري بقصر عيسى [...] ورأيتُ ابنَ رائق
قد جاء في سميريّة [...]»[30].
وحتّى عندما التزم
الصّولي بإيراد السّندِ نبّه مرّات عدّة بكونه ينقل المعنى دون أن يحفظَ اللّفظَ
الّذي قاله الرّاوي السّابقُ. فكأنّه باعترافِه إحداثَ تغيير مّا على الخبر
المنقول، يُعلن أنّه "يمثّل" أي يُبطِل أسلوبَ التّمثيل، لأنّ شرطَ
التّمثيل سكوتُ الرّاوي عنه بل إنكارُه.
* أسلوب الحوار:
يُعتبَر الحوارُ في الأصل
مُحدّدا لمدى حضور الشّخصيّات الفاعلة في الأحداث. بيد أنّه يُحدّدُ هنا مدى
حضور الرّاوي - المؤلِّف- الشّخصيّة. فالصّولي
ينقل محاورات كان في الأغلب الأعمّ طرفا رئيسا فيها، خاصّة منها ما تمّ في مجلسيْ
الرّاضي والمتّقي. والسّؤالُ المطلوبُ الإجابة عنه: ما إضافاتُ الصّولي في نقل
الحوارات؟
تمثّلت أُولى الإضافات في اعتراف الصّولي بالصّياغة
الشّخصيّة لما عايش من أحداث كلاميّة. فبعد محاورة له مع الرّاضي الّذي شكا سوءَ
علاقته بالقاهر، قال الأخباريّ: «وما حكيْتُ
من ألفاظه الّتي مرّتْ. وما أحكِيه من كلامه بعدُ، فهو كما أحكِيه أو شبهُه أو
مُقاربٌ. إذ كنتُ لا أقدرُ على أن أحفظَ لفظَه على حروفه. وأنا أحفظُ معناه»[31].
يتكرّر الأمرُ نفسُه وهو يستعيد كلاما لنفس الخليفة منبِّها في بداية المخاطَبة إلى
كونِه ينقل المعنى دون حَرفيّة النّصّ: «وتكلّم
بأحسنِ كلام وأصوبِه في معناه: إنّ الوزارةَ قِطعةٌ من الخلافة...»[32].
وأوردَ في أخباره مع أمير الأمراء "بَجكم" بالمدينة العراقيّة "واسط" تصريحا في آخر المخاطَبة بأنّه لا ينقلُ
ملفوظَ الأمير، إنّما يروي: «كلاما يُشبه
هذا أو هذا معناه»[33].
تدلّ هذه الاعترافاتُ أوّلا: على أنّ المؤلّفَ، حتّى وهو
يروي التّاريخَ، يتدخّل في نصّه مُنشِئا للخطاب (هذا
إنْ لم يكنْ مُنشِئا للخبر). وتدلّ ثانيا على
الوعي بقصور الذّاكرة عن الحفظ الدّقيق الصّادق لما جرى ولما قِيل. وتدلّ ثالثا
على أنّ الصّولي ربّما تعمّد هذه الاعترافات حتّى يُفهِمَ المتقبّلَ أنّ ما ساق من
بليغِ القول وبديعِ العبارة مصدرُه هو لا الشّخصيّةُ التّاريخيّة. كأنّما ضَنّ
بحُسنِ خطابه على الرّاضي وبجْكم، فنسبه إلى نفسه نِسبةً صريحة. وهذا ما يعكسُ
طورا هامّا من نموّ الخبر كفّ فيه الأخباريُّ، أو كاد، عن الاضطلاع بمجرّد نقل
الأفعال والأقوال. وصار يُقحمُ ذاتَه في النّصّ ويستدعي النّصّ إلى عالمه الخاصّ.
يتأكّد ذلك عندما يحضر الصّولي ناقدا أدبيّا لنفسه وهو
يسوق شعرا له بطلبٍ من طرف خارجيّ غالبا وبقرار ذاتيّ أحيانا. لكنّ النّقدَ لا
يخرجُ عن المديح الضّمنيّ أو الصّريح. فقد روَى أنّ الخليفةَ الرّاضي نفسَه طلبَ
منه إنشاءَ قصيدة وإنشادَها في حضرته: «صِفْ
أمرَك معهم وَصْفَ الزّبيديّة. فإنّك مشغوفٌ بها [...]. وانصرفتُ،
فعملتُ في ذلك قصيدةً زائيّة هي خيرُ زائيّة قِيلتْ قطّ. فلذلك أذكرها»[34].
ثمّ يذكرُها كاملةً بأبياتها الواحد والتّسعين.
لا يتردّد الصّولي في نقد السّاسة والعسكر. تجلّت تلك
النّزعةُ النّقديّة أثناء سرده مذبحةً نكراءَ تعرّض لها "الدّيلم" على أيدي العامّة وقد أباحَ ابنُ رائق، قائدُ
جيوش الرّاضي، متاعَهم ودماءَهم. قال الأخباريّ مستنكرا ما حصل من فضائعَ: «وكان ذلك ممّا لم يعهدْ فعلَ مثله أحدٌ. وهذا كلّه
جرى لرَكاكة مُدبّرِي أمر ابن رائق، وجهلِ من معه، وأنّ الخليفةَ ليس معه مَن
يُشير عليه ويُعرّفه الواجبَ من غيره، وقد كان يبلغ من هؤلاء الأعداء ما كان يجبُ
عليها بقتلٍ أحسنَ من هذا، كما أمر رسولُ الله صلّى الله عليه وبنهيِ العامّة
بعد أن ظفر بهم أن يتولّوْا بأيديهم قتْلَ أحدٍ حتّى يصيروا بهم إلى سلطانهم»[35].
لم ينقدْ الصّولي سلوكَ الخليفة ولا قائد الجيوش، باعتبارهما صاحبَيْ القرار
السّياسيّ والعسكريّ، بقدر ما نقدَ حاشيتَهما "الرّكيكةَ" الّتي خلتْ، على ما يبدُو، من النّاصحين
سديدِي الرّأي العارِفين بلوازم الملْك... أمثالِه!
حَظي المتّقي بلاذع النّقد في مواضعَ عدّة من الكتاب. من
ذلك أن يستنكرَ الصّولي سياستَه العديمةَ الرّصانةِ، حتّى إنّه يعتبرُها الأسوأَ
على الإطلاق. يقول حازِما جازِما: «ولا والله،
ما سمعتُ بأعجب من أفعال المتّقي لله كلّها، أوّلُ خطئه، وتركه الرّأيَ وركوبه
العوزَ: تركُه دارَ مملكته، وخروجُه عنها برأي التّرجمان وأشباهه لغير سبب أوجبَ
ذلك ولا اضطرارٍ دعا إليه. والأميرُ توزون إلى وقته ذاك مُطيعٌ له تابعٌ لما
يشتهيه، عالم مع ذلك أنّ الصّوابَ والرّأيَ غيرُ ما تكلّفه»[36].
ولأنّ الصّولي كان شاهدَ عيان لأغلب الأخبار الّتي رواها
في الجزء 2 فقد عمد أحيانا
إلى نقد بعض الأخبار بتصحيحها أو بتخطئتها أو بالتّشكيك في صحّتها.
۲- زمنُ القصّ:
* الإشاراتُ
الزّمنيّة:
حضرتِ الإشاراتُ
الزّمنيّة بكثرة نسبيّة في الجزء 2 لكونه متّصلا بالخبر التّاريخيّ. والتّاريخُ لصيق بالأطر الزّمنيّة صلةً
حتميّة. لذا رَتّب الصّولي أخبارَه، وأجْملها تحت عناوين من قبيل «أخبارُ سنة ستٍّ وعشرين وثلاثمئة». تكرّر هذا النّمطُ من العنْونة إحدى عشرة مرّة. ونظفرُ أحيانا بإشارات
دقيقة تسمّي اليومَ والشّهرَ إضافة إلى السّنة، يكون ذلك في الأخبار المتّصلة
بأحداث الولادة والوفاة والتّولية والعزْل... من ذلك: «وتُوفّي
الرّاضي ليلةَ السّبت لأربعَ عشرةَ ليلةً بقيت من شهر ربيع الأوّل سنةَ تسع وعشرين
وثلاثمائة. [...] وكان مولدُه في شهر رمضان سنةَ سبعٍ وتسعين ومائتين. فكان عمرُه إحدى
وثلاثين سنةً وستّة أشهر»[37].
غلبَ السّردُ الخطّي
الّذي يُرتّب الأحداثَ حسْب وقوعها في الزّمان غلبةً واضحة. لكن وجدنا أحيانا العزوفَ
عن ذلك لصالح الاستباق أو الارتداد اللّذيْن يُعتبران من بقايا نزعة المشافهة
ويُدخلان بعضَ الفوضى والاضطراب على سيرورة الخبر. لكنّ الصّولي يستأنف بسلاسة ما
كان فيه، كأنْ لم يُحدثْ فجوةً في البناء الحدثيّ أو تشويشا على المتقبّل.
ففي سياق أحداث "سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة" يقطع الأخباريُّ السّردَ ليرتدّ إلى زمن مضى
ثمّ يستبقَ إلى زمنٍ آت. فيُحدّثنا: «وكان الرّاضي يقول لنا بالموصل أيّامَ ظهور ابن رائق
ببغداد: لو كان ذاك الفاعلُ حيّا السّاعةَ لَأجلَس خليفةً، ولأخذ أموالَ التّجّار،
فالحمدُ لله الّذي حدث هذا وليس هو في الدّنيا. يردّد هذا مرّات لئلاّ نعلمُ أنّه
حيٌّ في يده. وكذا كان يقول في أمر القاهر[38]،
وحدّثنا كيف عُذّب وكيف مات، حتّى وُجد حيّا بعد وفاته»[39].
ربّما تذكّر هذا الأمرَ بعد أن أخبَر قبْلا بمرض الرّاضي. فحزّ في نفسه أن
يُهملَه.
ومن أمثلة الارتداد أيضا أنّ الصّولي استرجع كلاما
للرّاضي في: "ذكرُ رجوع الأمير أبي
الوفاء توزون" الّذي لا يفصله عن "آخرُ أيّام المتّقي للّه" إلاّ فصلٌ يتيم. إذ قال: «سمعتُ الرّاضي يقول في خلافته: إنّما كَتب الحسنُ
بن هارون لابن يلبق رحمةً من الله لنا لنبقَى، ولولاه لقتلَنا القاهرُ كلّنا!
ولكنّه كان يمنعُ منّا ويحمل ابنَ يلبق على المناضلة عنّا والدّفعِ عن أنفسنا.
وكان يصفه كثيرا»[40].
هذا اعترافٌ هامّ لا يحسنُ السّكوتُ عليه. فورودُه في أيّ موضع من الكتاب خيرٌ من
إسقاطه. ما ضيّعتْه الذّاكرةُ في حينه استحضره التّدوينُ قبل فوات الأوان.
* العلاقةُ بين زمنيّة الخبر وزمنيّة الخطاب:
يدّعي الصّولي أنّ
زمنيّةَ الخبر (أي الحدث) مُطابِقة لزمنيّة الخطاب (أي
النّصّ). إذ جاء في مُستهلّ الجزء 2 قولُه: «[...]، ونحن نذكر الآن بيعةَ الرّاضي بالله وما كان من أمره والأحداثَ في
أيّامه، إن شاء اللهُ»[41].
لكنْ كغيره من الأخباريّين يُضطرّ إلى الإجمال. فقد يختزل في قليل الكلام ما حدثَ
في زمان طويل. وقد يتوسّع في سرْد حدث لا يتطلّب وقوعُه عدا بعضَ الدّقائق. من ذلك
تفصيلُ القول في وفاة الرّاضي الّتي انفسح فيها مجالُ إبراز الذّاتيّة. فالصّولي
مُحِبّ لهذا الخليفة مُتنعِّم في ولايته مُمتنّ لفضلِه عليه متضرِّر من رحيله. لذا
اقتربت بعضُ تفاصيل الإخبار من الرّثاء. يقول: «[...] وغسّله أبو الحسن بن عبد
الواحد الهاشمي وقد ولِي القضاءَ. فحدّثني أنّه ما رأى ميْتا أحسنَ منه ولا أطيبَ
منه عِرضا ولا أنظفَ جسدا منه [...]»[42].
يتصرّف الصّولي في زمنيّة
الخطاب تصرّفا نسبيّا. أمّا ترتيبُ الأحداث، وهو الغالبُ على هذا الجزء، فيُعتبر
من أمارات التّحوّل في دور مؤلِّف الأخبار: اِبتعد عن مُهمّة الرّواية ليقترب من
وظيفة الكتابة بما تفرضه من انتظاميّة ورصانة وعقْلنة.
۳- أنماطُ الرّؤية:
* الرّؤيةُ
المصاحبة:
غلبت في الظّاهر الرّؤيةُ
المصاحِبة لأنّ الصّولي تاريخيّا يروي أحداثَ عصره وعمَليّا واكبَ جُلَّ تلك
الأحداث وعايشَ مُعظمَ شخصيّاتها. وفي هذه الرّؤية: «يَعلم
الرّاوي ما تعلمُه الشّخصيّةُ فلا يسوق لنا تفسيرا للأحداث إلاّ بعد أنْ تكونَ
الشّخصيّةُ قد أحاطت به»[43].
وقد وجدْنا الصّولي راويا شخصيّةً منخرطا في الحكاية غالبا وراويا متكلّما بضمير
الأنا دائما. فهذا الجزءُ من "الأوراقُ" جاء، في الأغلبِ الأعمِّ، شهاداتِ عِيان.
نذكر على سبيل المثال ما يشهد بتساوي الرّاوي مع الشّخصيّة في درجة العِلم: «وتُوفّي القاضي عمرُ بن محمّد ليلةَ الخميس لثلاث
عشرة ليلة بقيتْ من شعبان، وكانت سنُّه تسعا وثلاثين سنة [...]، وما تخلّف عن
جنازته أحدٌ من الأجِلاّء. ووَجِدَ الرّاضي عليه وجْدا شديدا حتّى كان يبكي عليه
بحضرتنا ويصفه ويقول: كنتُ أضِيق بالشّيء ذرعا حتّى أراه فيوسّعُه لي برأيٍ يسيرٍ
يُشيرُ به»[44].
وكذا شأنُ الرّؤية مع
الأحداث السّياسيّة والعسكريّة الّتي يعرفها عامّةُ النّاس وخاصّتُهم. فقد دوّن
الصّولي التّاريخَ المشترَكَ بلا تفسير أو تأويل أو تعليل جهِلتْه الشّخصيّاتُ
الفاعلة.
* الرّؤيةُ من خلف:
لكنْ نجد الرّؤيةَ من خلف
مسيطرةً في حقيقة الأمر على أخبار الجزء 2 على الأقلّ.
وبها يكون: «الرّاوي أكثرَ عِلما من
الشّخصيّة. وهو لا يَهتمّ بذكر الطّرق الّتي حصل بها على معرفته. إنّه يَرى من
خلال الجدران، ويَعرف ما يدور في خَلَد الشّخصيّات [...]. وقد يُلِمّ الرّاوي من باطن الشّخصيّة بما قد تجهله هي نفسُها، وقد
يُلِمّ ببواطن عدّة شخصيّات معا. وقد يروي أحداثا لم تُدركْها شخصيّةٌ واحدة»[45].
لقد ألفيْنا الصّولي
خبيرا ببواطن الخليفتيْن اللّذين اتّصل بهما. ففي سياق فخريّ كعادة الصّولي وهو
يتبجّح بواسِعِ معرفته وغزيرِ علمه، يكشف لنا ما حرص الرّاضي على حجْبِه عن
جُلاّسه. فيقول في جملة اعتراضيّة قطعتْ خطابَ الخليفةِ المؤكّدَ وفاةَ "ابن رائق":
«يُردِّد هذا مرّات لئلاّ نعلمَ أنّه حيّ في
يده»[46].
وفي حديث للصّولي مع بجكم عن الرّاضي، يقول فاضِحا مُداهنَةَ الخليفة لأمير أمرائه
الّذي استحوذَ على الشّأن العسكريّ واتّسع نفوذُه السّياسيّ: «ولقد كان يتصنّعُ في مدح ابن رائق حين كَرِهه
ويُقرّظه ويصِفه. فما كان يخفَى علينا ضميرُه فيه، هذا من قبْل أن يُظهِرَ لنا ما
في نفسه عليه»[47].
لقد أدركَ الصّولي قبْلا ما في نفس الخليفة المغلوبِ على أمره، ولم يكنْ ينتظرُ
اعترافَه.
وحضرت الرّؤيةُ من خلف
لتُدينَ أصحابَ الرّاقي الّذي نصحوه بالخروج لابن حمدان إدانةَ العليم بما
يُبطِنون أو بما يجهَلون من أنفسِهم: «ولا
واللّهِ ما نصحُوه، وإنّما خافوا على أنفسِهم من توزون، فخوّفوا الخليفةَ منه»[48].
بهذه الإدانة يسعى الأخباريُّ إلى تبرئة نفسِه من شُبهة الانتماء إلى الحاشية
الفاسدة المفسِدة.
III- التّعليق:
نخلصُ
من هذا البحث إلى بعض الاستنتاجات المتّصلة بملامح الأدبيّة في الخبر التّاريخيّ
في "أخبارُ الرّاضي بالله والمتّقي لله"، وهو الجزء 2 من "كتاب الأوراق". وتتصّل الاستنتاجاتُ بخصوصيّة أبي بكر الصّولي
في هذا الفرع من التّأليف الأخباريّ:
1- النّزعة الذّاتيّة:
هيمنتِ النّزعةُ الذّاتيّة على نصّ ادّعى
صراحةً انتماءَه إلى التّآليف التّاريخيّة من عنوانه والتزم صاحبُه بتوخّي الحياد
في آخر الفصل السّادسَ عشرَ «ذكرُ قتل
التّرجمان» من الفصول
العشرين الّتي يحويها هذا الجزءُ، فقال: «واللهُ يعلمُ أنّي ما تحرّيتُ بقولي
هذا إلاّ الحقّ والمناصحةَ ولا يرانِي اللهُ - في شيء مِمّا أرويه وأؤلّفه - أريد
صديقا لصداقته، ولا رئيسا لإحسانه، ولا أتزيّدُ على عدوّ لعداوتِه، ولما أعتقدُه
من بُغضه، ومَن لزِم الحقّ سلِم في عاجِله وآجِله وكان اللهُ ولِيّ توفيقِه»[49].
اِلتزامٌ كهذا كان يجب أن يأتيَ في مُستهلّ الكتاب ليُطمئنَ المتلقّي. فإذا به
يرِد متأخّرا كأنّما ليسُدّ نقصا أو يرتِقَ سهْوا. ربّما أدرك الأخباريُّ أنّ
نزعتَه الذّاتيّةَ قد غلبتْه مرارا على نفسه. فسعى إلى استعادة ثقة القارئ وقد
أوشك أن يفرغَ من الكتاب.
لم يجدِ الصّولي أدنى
حَرَج في "استعراض عضلاته" الشّعريّة عديدَ المرّات تالِيا قصائدَه
المطوّلات دون حاجة السّياقِ إليها أغلبَ الأحيان. كشفت الأشعارُ رغبةَ صاحبها في
أن يحتلّ مكانةً أرفعَ في متنِ الخبر وأبقَى في ذاكرة القرّاء. أمّا أشعارُ
الرّاضي فهي جزءٌ لا يتجزّأ من أخباره. وقد زَعم الصّولي أنّه حسّنها بموافقة
الخليفة وتدخّل في إنشائها بما يجعلها أفضلَ مِمّا كانتْ. يقول بعد أنْ حضّر
النّسخَةَ الأصليّة: «فنظرتُ فيها، فإذا فيها
أشياءٌ. فقلتُ له من حيثُ لا يسمعُني أحدٌ: يا سيّدي، هذا شعرٌ يبقى إلى الأبد.
وقد بقِيتْ فيه حروفٌ تحتاج إلى أنْ نغيّرَها. فقد غيّر المعتزُّ شعرَه مرّاتٍ.
وإن أمرتَني نَسختُه نسخةً أخرى وعرضتُه على سيّدنا، ويأمرُ بأمرِه. فقال: اِفعلْ،
وأنا أصلُك للنّسخِ وغيرِه. فعملتُ نسخةً كتبتُها وعرضتُها عليه، وكان هذا في آخر
أيّامه. فسُرّ بها»[50].
ولأنّ الخليفةَ حرمَه الجزاءَ الماليّ على هذا الجهد "الشّعريّ
والنّقديّ" فقد قرّر "الثّأرَ"
لنفسه منه بفضْح هُويّة الشّريك في إنتاج القصائد! والسّؤالُ الّذي لن يظفرَ بجواب
هو: أكانَ الصّولي سيُخفي هذه "الشّراكةَ
النّصّيّة" لو أناله الرّاضي العطيّةَ
الموعودة؟!
فَعل الأمرَ نفسَه مع إبراهيم
بن المقتدر الّذي حرمَه حقّ التّسمية. فالصّولي هو من اقترح ثلاثين اسما تخيّر
منها الخليفةُ العبّاسيّ الحادي والعشرون اسمَ "المتّقي
لله". إذ أقسمَ لنا قائلا: «فواللهِ، ما وصل إليّ منه عاجِلٌ ولا آجِل شيئا
حتّى انقضتْ أيّامُ ولايته»[51] مع أنّه ذكّره بذلك شعرا.
يَعمد الصّولي الشّاعرُ
إلى وضعِ نفسه موضعَ الممدوح على لسان الرّاضي مرّات وعلى لسان بعض الخدم أحيانا.
إذ نقل رأيَ الخليفة في قصيدتيْه الضّاديّتيْن: «هذه
الضّاديّةُ أفحلُ كلاما من تلك. وتلك أنعمُ لفظا. وكلتاهما في نهاية الجودة»[52].
ونَسب إلى نفس الخليفة قولَه مستحسِنا زائيّةَ المؤلّف مُفاضِلا إيّاها على
سابقتِها: «ما أعرفُ زائيّةً مثلَها، بل لا
أعرفُ زائيّةً إلاّ للشّمّاخ. وتلك عجوزٌ، وهذه شابّة»[53].
اِفتخر الصّولي بجودةِ صنعته
الشّعريّة في مواضعَ كثيرة. منها «[...] فعملتُ في ذلك
قصيدةً زائيّة هي من خير زائيّة قِيلتْ قطّ»[54].
ومنها قولُه يُقدّم مدحيّتَه في "ابن
مُقلة" يسترضيه ويطلبُ عفوَه: «[...] فكاتبتُه بأشعار يُغفَر بها الكبائرُ من الذّنوب، فما عطف عليّ! منها أنّي
مدحتُه بقصيدة ما مُدح بها قطّ [...]. وأنا أذكرُ هذا الشّعرَ وإن كان طويلا لِخصال: منها أنّه حسنٌ، ومنها أنّه
ما مُدِح بمثله، ومنها تكذيبُ مَن زَعم أنّي هجوتُه فيها [...]»[55]. بدا الإلحاحُ على جودة هذا النّصّ ثأرا من الرّفض الّذي لقِيه به
الممدوحُ الغاضبُ بل ثأرا من الممدوحِ نفسِه الّذي لم يَعْفُ عن المادِح، لم يعْفُ
لأنّه جهِل معاني الاسترضاء والاستعطاف والاستغفار الّتي «يُغفر
بها الكبائرُ من الذّنوب». فكيف بمنْ لا ذنبَ
عليه؟! في هذا الشّاهد تجاوزَ الصّولي الفخرَ إلى الدّفاع عن النّفس "المتّهَمة"
بهجاء أحد أُولِي الأمر. تهمةٌ كهذه لا تليقُ بشاعر البلاطات وجليسِ الخلفاء
وأَخباريِّ السّاسة.
كما انتقد الصّولي شعرَ
الرّاضي تجرّأ على انتقاد أشعاره، وأظهر قدرةً على تمييز المطبوع منها والمصنوع
دون انحياز عاطفيّ لنصوصه. إذ قال ناقِدا القصيدةَ "المغشوشةَ" الّتي أنشدها مُهنّئا المتّقيَ بالخلافة: «وليس هذا الشّعرُ كجودةِ أشعاري في الرّاضي بالله،
لأنّ ذلك كان أعلمَ النّاس بالشّعر. فكنتُ أتنخّل له الألفاظَ وأختارُ عَلَوِيّ
الكلام»[56].
إنّ الصّولي يكلّمُ الممدوحين بما يفهمون من جميلِ الشّعر أو رديئه: لكلِّ ممدوح
ما يستحقّ من القريض حسْب كفاءته استيعابا وذائقةً وربّما - وهذا ما لم يُصرّحْ به
المدّاحُ - عطاءً.
لكنّ الغريبَ في الأمر
أنّ الصّولي لم يستنكفْ من الاعتراف بارتكاب الكذب والغشّ تقرّبا من الخليفة
الجديد وطمعا في العطيّة. كان ذلك لَمّا بايعَ المتّقيَ لله. إذ حدّثنا
الأخباريُّ المدّاحُ بعد أن أنشد قصيدةَ التّهنئة: «وهي
قصيدةٌ كنتُ مدحتُ بها المكتفيَ بالله، فلمّا دخلتُ قال لي ابنُ ميمون: أما عملتَ
شعرا؟ وما كنتُ عملتُ. فقلتُ: أعملُ السّاعةَ. فقلبتُ مواضعَ القصيدة، وكتبتُها»[57].
بيد أنّنا نلمسُ في هذا الانحراف الأخلاقيّ، فخرا ضمنيّا بسرعة البديهة الّتي جعلت
الخدعةَ تنطلي على جميع الحاضرين.
يقطع الصّولي سردَ
الأخبار التّاريخيّة العامّة للدّولة وللرّعيّة ليستطردَ في سرد ما حلّ به قائلا: «فأمّا خبري أنا...»[58].
وفي صفحتيْن روى ما طالَه من نهبٍ وإهانة وخصاصة بلا ذنب اقترفه. إنّما كان ضحيّةَ
هجمة انتقاميّة قام بها الدّيلمُ بعد المذبحة الفضيعة الّتي أنزلها بهم "ابنُ رائق"
أميرُ الأمراء. والطّريفُ أنّه يختم هذه المسارّةَ (أو
نواةَ السّيرة الذّاتيّة) مُوضّحا: «ولولا خوفِي من إطالة الكتاب بما لا يحتاج النّاسُ
إليه ولا يُبالون بعمله لَذكرتُ ما أتفرّج به. فإنّي كالمصدور، يستريحُ إلى
النّفْث وكالإناء ينضحُ بما فيه»[59].
جَلِيّ ما في التّشبيهيْن التّمثيليّيْن من إحالة إلى فعلِ الكتابة في فاعلها.
كأنّ الصّولي يَضُنّ بجهده في التّأليف بل في الكتابة على السّاسة والعسكريّين.
فيسْترِق لنفسه مواضعَ قليلة مختَصرة في غضون الكتاب، لكنّها واضِحةُ الدّلالة على
تحوّل علاقة المؤلّف بنصّه: مِن خبرٍ يُروَى إلى نصّ يُنشَأ، مِن سردٍ محورُه
الآخرُ إلى تداعٍ حرّ موضوعُه أوجاعُ الذّات.
تعود النّزعةُ الذّاتيّة
في بعض جوانبها، إلى أنّ التّاريخَ ظهر مع الأخباريّين مُلتبِسا بالأدب قبل أن
يستويَ علما قائمَ الذّات مع عبد الرّحمان بن خلدون في ق8ﻫ/14م. فالتقتْ في
رحاب الخبر أشكالٌ وأجناسٌ أدبيّة لَمّا تنلْ استقلالَها، لكنْ ستُثبتُ وجودَها
لاحقا.
2- اِنتظاميّةُ الأخبار:
في الجزء 2 سعيٌ إلى خلقِ
انتظاميّة مّا تَحكُم العلاقات بين الأخبار حتّى لا تأتيَ في حالٍ من الفوضى
والتّتابع العشوائيّ والتّجاور الْمَجّانيّ. لذا وجدنا الصّولي يحرصُ على كشفِ العلاقات بين الأخبار والتّصريحِ بذلك في عناوين وجعلِ
المحتوى وفيّا وفاءً شبهَ تامّ لتلك العناوين، ما عدا بعضَ حالات الارتداد أو
الاستباق.
لقد أخضعَ الأخبارَ إلى التّرتيب العامّ
الّذي كان حسب الشّخصيّتيْن الرّئيستيْن: الرّاضي باللّه والمتّقي للّه. تضمّن هذا
التّرتيبُ بدوره ترتيبا داخليّا حسْب الرّابط الزّمني: «أخبارُ سنة...». اِشتملَ هذا الأخيرُ
أحيانا ترتيبا فرعيّا حسب الموضوع إذا كان الحدثُ أهمَّ ما جرى في ذلك الحيّز
الزّمنيّ. من أمثلة ذلك: «وفاةُ الرّاضي»، «ذكرُ قتل التّرجمان»،
«آخرُ أمر المتّقي»...
وخصّ «أشعارُ الرّاضي بالله» بفصل خاصّ كان أقربَ إلى المختارات الشّعريّة منه
إلى الخبر التّاريخيّ.
بهذا التّرتيب حاول الصّولي
كبْحَ جِماحِ الخبر الّذي هو وحدة متنقّلة. إذ ربطه بسياق أعمّ منه يُؤطّره مَبدأ
ومُنتهًى ويَربطه بموقعه من الكتاب. فصارت أخبارُ الشّخصيّة الواحدة أو أخبارُ
السّنة نفسها يشُدّ بعضُها بعضا، ويتعذّر بناءً على ذلك التّصرّفُ فيها بالتّقديم
أو التّأخير. بذلك اِبتعدنا نسبيّا عن كيان "الخبر" الشّفويِّ المتجدّد الطّليق لنقترب من كيان "المؤلَّف"
الّذي قيّده التّدوينُ وضبطه التّبويبُ.
3- حضورُ "الـلاّتاريخيّ":
في مؤلّف يزعُم أنّه يروي أخبارا تاريخيّة
تمتدّ على مدى إحدَى عشرةَ (11) سنةً من
تاريخ الدّولة العبّاسيّة لا نَعدَمُ وجودَ العجيب والأسطوريّ والغيبِيّ الشّعبيّ.
ومن المفارقات أن يحضرَ "اللاّتاريخيّ" حجّةً على صدقِ التّاريخيّ وعلى الرّبطِ
المنطقيّ بين الأسباب ونتائجها. مثالُنا على هذا قولُ الصّولي متعجّبا من صحّة
الرّواية الشّعبيّة في شأن عُمْر المتّقي حين وفاتِه: «وما أعجبَ ما
اتّفق له من صحّة الأخبار فيه. جاءت الرّوايةُ أنّ عمرَ الحادي والعشرين من
الخلفاء أقلّ من ثلثَيْ عمرِ الّذي كان قبلَه وأكثر من نصفه. فكان كذلك»[60].
ولم يتحرّجْ الصّولي من أنْ يربطَ وفاةَ
المتّقي بكسوف القمر على صفة فَلكيّة معيّنة مُعتمِدا القياسَ على ما ذكرَ الفلكيّ
القديم "بليناس"
في كتابه "أمرُ ملك بابل".
ويمكن أن نعتبرَ إيمانَ الصّولي بتحكّمِ الحظّ
والبركة في تفوّقِ بعض النّاس أمرا "لاتاريخيّا" أيضا لأنّه ينفي جُهدَ هؤلاء وموهبتَهم. يقول
في نبرة لا تخلو من حسد: «سُبحانَ الله، ما أعجبَ البركةَ والحظوظَ! هذا أبو جعفر محمّد بن يحيى بن
شيراز ما كتبَ لأحدٍ قطّ إلاّ بلغ أعلى المراتب وأجلّ المنازل»[61].
لهذه المفارقة ما يُفسّرها. فالصّولي أديبٌ
شاعر قبل أن يكون أخباريّا. وانفتاحُ خبره التّاريخيّ على التّخييل الأدبيّ
تُبرّره ثقافتُه الموسوعيّة وطبعُه وذوقُه وميولُه. ثمّ إنّه زمنَ الصّولي لم تكنِ
الحدودُ بين الأجناس الكتابيّة واضحةَ المعالم. فالنّثرُ عُرّف بكونه ما خالف
الشّعرَ. لذا تداخلت الأجناسُ وتشاركت أحيانا في الخصائص والمضامين، حتّى إنّه
يمكننا الحديثُ عن حرّيّة "تنقّلِ" الخصائص الأجناسيّة بما يُشبه تنقّلَ الخبر
الواحد في مؤلّفات عدّة. أمّا حضورُ الغيبِيّ الشّعبيّ أثناء سرد حدث تاريخيّ هو
وفاة المتّقي، فيمكن ربطُه بذاتيّة الصّولي الّذي تشفّى من الخليفة سرّا وعلانية.
فجعل سُلطةَ الرّئِيّ وسلطةَ الفلكيّ الكاهن وسلطةَ القدر الإلاهيّ تلتقي جميعا
لتقفَ إلى صفّ الأخباريّ "المظلوم" وتُنهِي أمرَ المتّقي "الظّالم"
نهايةً مأساويّة لا يُحسَد عليها. وكانتْ سلطةُ الكلمةِ "التّاريخيّة
الأدبيّة" القشّةَ الّتي قصمتْ ظهرَ
الخليفة.
4- تجاوُبُ أخبار الكتاب:
لأنّ
الصّولي يحقّق الأخبارَ بوعي فإنّنا لم نجدْه يراجِع نفسَه. ولم تردْ في هذا الجزء
أخبارٌ متناقضة في مواضعَ مختلفة. بل قد يُصدِّق خبرٌ لاحق خبرا سابقا كنوع من
الاستدلال. ولا يمتنع الصّولي عن الإشارة إلى إرجاء خبر مّا مراعاةً للسّياق. من
شواهد ذلك حديثُه عن فساد مِزاج الرّاضي في آخر أيّامه: «فكان سِنانٌ بن
ثابت [...] يقولُ إذا رأى أخلاقَه متغيّرةً: "ما
أحسنَ قولَ جالينوس: مزاجُ الرّوح تابعٌ لمزاج البدن"!
وأنا أُفرد لهذا بابا إن شاء اللهُ»[62]، وقولُه: «اِنقضتِ الحوادثُ
إلى غرّة ربيع الآخرة سنةَ تسع وعشرين وثلاثمائة. وفيه تُوفّي الرّاضي باللّه، وأنا
أذكرُ وفاتَه بعدَ إتمامي، وأذكرُ مختارَ شعره»[63]. ثمّ وفى بما وعدَ.
بدا
الجزءُ 2 أكثرَ أجزاء مدوّنة الصّولي تمثيلا لبداية هيمنة سلطة
الكتابة في ذاك العصر. فكانت آثارُ الشّفويّة فيه قليلة مقارنة مع باقي مكوّنات
المدوّنة:
الجزء 1 من "الأوراق": "أخبارُ
الشّعراء المحدَثين" ينتمي إلى أدب
التّراجم، وفيه سجّل السّندُ حضورا هامّا.
الجزء 3 من "الأوراق": "أشعارُ
أولاد الخلفاء وأخبارُهم" يتقاسمُه أدبُ
التّراجم وأدبُ المختارات.
"أخبارُ
أبي تمّام": صريحُ الانتماء إلى أدب
التّراجم، حضر فيه السّندُ بكثافة.
[نعلمُ
من نصّ "الأوراق"
ومن التّاريخ أنّ الكتابَ لم يصلْنا كاملا: ضاع جُزآن: "أشعارُ
الخلفاء وأخبارُهم" و"أخبارُ القاهر والأحداثُ في أيّامه"].
5- تسرّبُ الأدبيّة:
إنّ الأدبيّة، من حيث هي سماتٌ مجرّدة لنصّ
مّا، قادرةٌ على التّسرّبِ في ثنايا شتّى النّصوص واحتلالِ المواقع فيها. فهي إنْ
لم تجدْ لها موطِئَ قدم في المضمون، وجدتْه ضرورة في الخطاب. بهذا المعنى تصيرُ
درجةُ حضور الأدبيّة في الخبر، تاريخيّا كان أو أدبيّا، مَيسما لأسلوب المؤلّف
الجامعِ للأخبار بانتقاءٍ مقصود المنظّمِ إيّاها وفق منطق معيّن. فالأخباريّ يسعى عن
قصد أو عن غير قصد إلى أن يبلغَ مرتبةَ الكاتب المنشِئ لنصّه مضمونا وخطابا معا.
وهذا ما سيتّضح لاحقا أكثرَ مع فنّ المقامة الّتي خرجتْ من رحمِ الخبر وحلّقتْ في
سماء الكتابة الإبداعيّة على يديْ بديع الزّمان الهمذاني ق4ﻫ/10م والقاسم بن
عليّ الحريريّ ق6ﻫ/12م.
نختم بأسئلة تنسحب على كلّ البحث: أيجوزُ أن
نعتبرَ الأدبيّةَ إذا وُجدت في النّصّ التّاريخيّ، مَنفذا للطّعن في موضوعيّة
كتابة التّاريخ كما الحالُ مع الدّوافع الإديولوجيّة من فلسفيّةٍ ودينيّة وسياسيّة
وعرقيّة؟ أم تكون الأدبيّةُ ميسَما أسلوبيّا جماليّا لا يؤثّر ضرورة على صِدقيّة المضامين؟
قياسا على البحث في مدى "أدبيّة" الخبر التّاريخيّ، أيمكن البحثُ في مدى "تاريخيّة"
الخبر الأدبيّ؟
المصدر:
- الصّوليّ (أبو
بكر محمّد بن يحيى): أخبارُ الرّاضي بالله والمتّقي لله (أو تاريخُ الدّولة العبّاسيّة من
سنة 322 إلى سنة 333 هجريّة من كتاب
الأوراق) من كتاب "الأوراقُ"، الجزء
2، الطّبعة 3، دار المسيرة، 1983، بيروت، تحقيق:
ج.هيورث دان: Heyworth Dunne
المراجع:
- الصّوليّ (أبو بكر محمّد بن يحيى): مقدّمة
كتاب "أخبار البُحتري"، الطّبعة 2، دار الفكر، 1964، بيروت، تحقيق: صالح الأشتر.
- القاضي (محمّد): تحليلُ النّصّ السّرديّ،
دار الجنوب للنّشر، 1997، سلسلة
مفاتيح.
- القاضي (محمّد): الخبرُ في الأدب العربِيّ:
دراسةٌ في السّرديّة العربيّة، منشورات كلّيّة الآداب، منّوبة، 1998، سلسلة آداب.
- القاضي (محمّد): درس الأدب القديم:
"أدبيّةُ أيّام العرب"، مناظرة التّبريز في اللّغة والآداب العربيّة،
السّنة الدّراسيّة: 2003 - 2004 (مخطوط).
- القاضي (محمّد): درس الأدب القديم:
"أدبُ الأخبار عند الصّولي"، مناظرة التّبريز في اللّغة والآداب
العربيّة، السّنة الدّراسيّة: 2004 - 2005 (مخطوط).
فوزيّة
الشّـطّي
كلّيّةُ الآداب بمنّوبة، تونس: أفريل 2005
[21] البريديّ: اِسم لثلاثة إخوة.
كان أبوهم صاحبَ البريد في البصرة. لعبوا دورا خطيرا على أيّام المقتدر باللّه
وخلفائه. حاربهم ابنُ رائق. طردهم معزّ الدّولة البويهيّ من البصرة. أكبرُهم أبو
عبد اللّه أحمد، ت 333ﻫ/945م.
[38] القاهر باللّه
(ابن المعتضد) : الخليفة العبّاسيّ التّاسعَ عشرَ (320-322ﻫ): أساء
سياسةَ الرّعيّة، فأسِر، وسُملت عيناه. سُجن 11 عاما، وعاش متسوّلا.
هناك تعليقان (2):
رابطُ المقال في مجلّة التّراث العربيّ، العددان: 134-165، صيف/خريف 2014:
https://www.awu.sy/PublicFiles/pdf/turath/tourath134-135.pdf
رابطُ المقال في موقع أكاديميا:
https://www.academia.edu/34275807/%D8%A3%D8%AF%D8%A8%D9%8A%D9%91%D8%A9%D9%8F_%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A8%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%91%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D9%91_%D8%B9%D9%86%D8%AF_%D8%A3%D8%A8%D9%8A_%D8%A8%D9%83%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%91%D9%88%D9%84%D9%8A.docx
إرسال تعليق