'الرّبيعُ' العربيُّ في ميزانِ الغَرب
ليس تَعسّفا
أو تواكُلا أو رجْما بالغيْبِ الإقرارُ بأنّ سيادةَ الدّيمقراطيّة في دول ما
يُسمّى 'الرّبيع العربيّ' لا يُؤمِّن مصالِحَ القوى الغربيّة ولا يخدِمُ
مشاريعَها التّوسّعيّة الإمبرياليّة. الصّراعُ على مصادرِ القوّة الطّاقيّة وعلى
مناطقِ النّفوذ الاستراتيجيّ عاملٌ حاسِم في ضبطِ العلاقات بين الدّول. أمّا إذا
كانت هذه الأخيرةُ خاضعة لثنائيّة «المركز والمحيط» فإنّ
الصّراعَ يشتدّ ويحمَى وَطيسُه حفاظا على «الزّاد الاستراتيجيّ». لذا ساندتْ
"دولُ المركز"
الطّغاةَ العربَ وغيرَهم بدرجاتٍ متفاوِتة تفاوتَ مصالحها معهم، وغضّتْ الطّرفَ
عن جرائمهم وزكّتْ إصلاحاتهم الوهميّة، وتغنّتْ بمعجزاتهم الاقتصاديّة، وتأهّبتْ
للمساهمة في قمع الاحتجاجات الشّعبيّة ضدّهم [كذلك كان موقفُ فرنسا من بواكير الثّورة
التّونسيّة مثلا قبل أن تتدارك أمرَ مصالحِها مع حملة «النّاتو»[1] على ليبيا].
المصلحةُ
العليا لغُزاة الأمس واليوم أنْ تستمرّ 'دولُ
الفسادِ والاستبداد' مُهيمنة على شعوبِ
المنطقة لأنّها توفّر غطاءً أمنيّا للتّجاوزات الّتي يرتكبونها ضدّنا وشريكا
نشيطا في عمليّات النّهب 'الـمقنَّنة' وحِصنا منيعا لغنائمهم التّاريخيّة في مستعمرات
استقلّتْ دون أن تستطيع شقَّ عصا الطّاعة في وجْهِ 'الرّجل
الأبيض'. اِستغلالُ اليد العاملة الرّخيصة
بما يشبه عبوديّةَ قرونٍ خلتْ، جعلُ أوطاننا مقابرَ للنّفايات السّامّة الّتي ما
عاد المواطنُ الغربيّ اليقِظ يقبلُ وجودَها على أرضه، الحفاظُ على أسواقٍ
مُشرَعةِ الأبواب والنّوافذ أمام بضائعهم المستورَدة لمستهلكين لا يحسنون إنتاج
إبرة ويجبُ ألاّ يفعلوا، تأبيدُ الأمّيّة والتّخلّف والفتن الطائفيّة... ذاك غيْضٌ
من فيْضِ الاستقلال المغشوش.
الحكمةُ
القديمة «مصائبُ قومٍ عند قوم
فوائدُ» تكاد تلخّصُ طبيعةَ
العلاقة بين مستعمِر 'يَحنُّ إلى خبزِ
الجنوب' وبين مستعمَر 'دونَ سِنّ الرّشد الحضاريّ' بلْ 'ما
بلغَ الفطامَ'، كلّما تقدّمَ خطوةً إلى
الأمام رجعَ القَهقرى بفعل فواعِل عدّة. كأنّما يحمل «صخرةَ سيزيف»[2] على عاتِقه المتهالِك.
إنْ نَـمَتْ «دولُ المحيط» فعلى مقاسِ مصالح المركز
الغيريّةِ يكون نموُّها لا على مقاس حاجاتها الذّاتيّة. ونادرا ما تنعكسُ
الآيةُ.
على هذا
الأساسِ كان الفزعُ الغربيّ من اشتعال الشّرارة الثّوريّة الأولى، وكانت حالةُ
الاستنفارِ القُصوَى في المخابرات الأوربيّة والأمريكيّة، وكانت حيرةُ القرار
السّياسيّ وارتباكُه وتعطّلُه... لكنْ إلى حينٍ! سرعانَ ما تدارك 'وَلِيُّ أمْرنا' ما فاتَه
مِن زلازل في مجاله الحيويّ عامِلا على الإمساك بجِماح الثّورة غيرِ النّمطيّة
وعلى إعادة فرْضِ النّفوذ بمسمّيات جديدة وبأقنعة أكثر انسجاما مع طبيعة
المرحلة. اِقتضت المصلحةُ النّفطيّة أن يتمّ التّدخّلُ العسكريّ المدمِّر في
ليبيا وأنْ يُغتالَ العقيدُ الرّاحلُ «معمّر القذّافي» في إحدى أبْشع جرائم الحرب دَفْنا لحقائقَ فاضِحة. ولأنّه كلّما كان الدّمارُ أشرسَ كان سعرُ إعادة
البناء أرفعَ، قصفتْ طائراتُ 'النّاتو' المدنَ اللّيبيّة المأهولةَ والمهجورةَ بجنون 'نيرُونِيّ' [نسبةً إلى
نيرُون، الإمبراطور الرّومانيّ المتّهَم بإحراق روما تَشفّيا بأهلها]. واقتضتْ
مصالحُ 'الإمبراطوريّة الأمريكيّة المتوحّدة'[3] أن تُقلَّم أظافرُ الرّبيع 'الخدِيج'[4]
كي لا يَخدِش سلطانَها أو يحاولَ كسْرَ شوكتَها ولوْ في عُقْرِ داره المستباحة.
وكانتْ «صناعةُ الفِتنة» إحدَى وسائل الخلاص من الطّوفان الثّوريّ في 'شرقٍ' ملغوم
ثروةً وجُوعا. «فَرّقْ تَسُدْ» تقنيةٌ سياسيّة قديمة
تَسحبُ البساطَ من تحت أقدام العدوّ ولا تُكلّف إلاّ التّحريضَ والتّعبئةَ ودعمَ
المتناحرين جميعا بما يُحقّقُ 'توازُنَ
الرّعب'. هي أقلّ من الحرب وِزْرا وأوفَرُ
منها حصادا. أمّا الجنودُ العاملون بالوكالة ففِي الخدمةِ دوْما على أحرَّ من
الجمْر ترقّبا لهذه اللّحظةِ التّاريخيّة، لحظةِ الانقضاض على عروشِ 'الرّبيع'
الخاوِية المتهالكة المرتبكة. وكانتِ «المنظّمةُ السّلفيّة العالميّة» في الموعد مع التّاريخ
البترودولاريّ! حسْبُها أن تجعلَ الحلمَ الثّوريّ الجمْعيّ كابوسا دمويّا مُرعبا
وأن تضطرّنا إلى التّرحّمِ على طغاتنا الآفلِين. وظيفةُ 'الإخوان' هي أنْ يلعبُوا،
بتوجيهٍ حكيم من الوهّابيّةِ المستورَدةِ المدفوعةِ الأجْر من عِرْضنا ولحمنا،
دوْرَ العصا الغليظة التي تُعطّل عجلةَ الثّورات وتقِف سُدّا منيعا أمام الغضب
الشّعبيّ الزّاحف وصمّامَ أمانٍ ضدّ الوعي بأقنعةِ الاستعمار النّيوليبرالِيّ.
لأنّ
الوعْيَ وباءٌ سريعُ العدوَى، وَجبَ تحصينُ الرّعيّة منه بزوابعَ من قبيل: 'ختانُ الإناث'
و'تحريمُ الزّواج المدنيّ' و'الحقُّ في
النّقاب' و'أرضُ
الجهاد السّوريّة' و'الخلافةُ الرّاشدة السّادسة'
و'توطِينُ الإرهابِ'
و'مفاخذةُ الصّبيان'
و'الاغتصابُ الحلال'
و'جهادُ النّكاح' و'دستورُ
حسن البنّا'[5]...
على هذا 'الرّبيع' الماردِ
الّذي لم يَـمْتطِ دبّابةً أمريكيّة ولم يتثاءبْ في الملاجئ الأوربيّة النّاعمة
ولم يغسلْ ذنوبَه عند أربابِ «جماعات
الضّغط الصّهيونيّة»[6]... عليهِ لأنّه عربيّ «دفعةً
واحدةً»[7]، أنْ يلوذَ سريعا بقُمقمِه حتّى تعودَ المصالِحُ
الغربيّة إلى قواعدِها سليمةً من كلّ أذًى بل أفْتَى مِـمّا كانت وأصْلبَ عُودا!
الهوامشُ:
1- منظّمةُ حلفِ شمال الأطلسيّ: North Atlantic Treaty Organisation : تأسّستْ عام 1949.
هي تحالفٌ سياسيّ وعسكريّ يضمّ 28 دولة حاليّا.
2- شخصيّة أسطوريّة من الميثولوجيا الإغريقيّة
عُرِف باالمكر والجشع والنّزق وخرْق القوانين، حتّى إنّه خدع إلهَ الموت. فعاقبه
ربُّ الأرباب 'زيوس'
بأن يحمل صخرةً عظيمة من أسفل الجبل إلى قمّته. لكن كلّما يُوشك أن يبلغَ
القمّةَ، تتدحرج الصّخرةُ إلى أسفل الوادي. فيعود إلى رفعها. وهكذا دواليْك بلا
انقطاع. صار رمزا للعذابِ الأبديّ ولعبثيّة الوجود البشريّ.
3-
هكذا يسمّيها النّاقدُ والفيلسوفُ وأستاذ اللّسانيّات والنّاشط السّياسيّ ومؤسّس
نظريّة 'النّحو التّوليديّ' الأمريكيّ أفرام
نعوم تشومسكي. عُرِف بنقده اللاّذع للسّياسة الخارجيّة للولايات المتّحدة
الأمريكيّة.
Avram Noam
Chomsky : ( 1928.12.07-؟)
4-
الخدِيجُ(ة): المولود(ة) قبل تمام
الأيّام أو الّذي جاء ناقصَ الخلق.
5- حسن أحمد
عبد الرحمن البنّا، الشّهير بالسّاعاتي: (1906.10.14-1949.02.12م) / (1324ﻫ-1368ﻫ) مؤسّس حركة
الإخوان المسلمين سنة 1928م، والمرشد الأوّل للجماعة. اُغتِيل ضربا بالرّصاص في
شارع 'رمسيس'
بالقاهرة.
6- هي التّرجمةُ العربيّة الأكثر شيوعا للمصطلح الأنقليزيّ Lobby. ما يميّز
جماعةَ الضّغط عن الحزب هو أنّها تؤثّر على القرار السّياسيّ الدّاخليّ كما
الخارجيّ بسلطة المال أو الدّين أو الإعلام أو أصوات النّاخبين... دون أن تحاول
الوصولَ إلى كرسيّ الحكم. إنّها تشبه ما نسمّيه اليومَ 'حكومات
الظّلّ' الّتي تُمسك بزمام الأمور من وراء
حجاب. فلا يصدّق عاقلٌ أنّ السّياسة الأمريكيّة في الشّرق الأوسط مستقلّة عن 'جماعات الضّغط الصّهيونيّة' ولا أنّ التّدخّل العسكريّ الفرنسيّ في
ليبيا كان بمعزل عن 'جماعات الضّغط
البتروليّة' ولا أنّ السّياسة القطريّة إزاء
'دول الرّبيع'
بمنأى عن 'جماعات الضّغط السّلفيّة'...
7-
العبارةُ للشّاعر التّونسيّ: محمّد الصّغيّر أولاد أحمد
(1955.04.04-2016.04.05)،
قالها عن 'التّونسيّ' تخصيصا.
فوزيّة الشّـطّي
تونس: 16
جوان 2013
|
إجمالي مرات مشاهدة الصفحة
2013-06-17
مقال: 'الرّبيعُ' العربيُّ في ميزانِ الغرب.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق