إجماليّ مرّات مشاهدة الصّفحة

2020-11-08

شواهدُ على اللاّقانونِ واللاّمواطَنةِ

³ شواهدُ على اللاّقانون واللاّمواطَنة ³

أروِي، تأكيدا لغيابِ سُلطةِ القانونِ وتعطُّلِ قيمِ الـمُواطَنةِ، وقائعَ منوَّعةً متفاوِتةَ القيمةِ والدّلالةِ:

- حصَل تسرُّبُ غازٍ في محلٍّ أكْترِيه. فَتلكَّأتِ المالكةُ في إيقافِ الضَّرر وإصلاحِ العَطب. وطمأنتْنِي باعْتدادٍ وخُيَلاء قائلةً: «لا علَيكِ، 'عندِي شكُون' في شركةِ الكهرباء والغاز!». طمأنْتُها بدورِي كما يجبُ. إذ فسخْتُ عقدَ الكراء بشكلٍ قانونِيّ أحبطَها وأراحَ المسؤولَ مِن تقديمِ خدمةٍ وهميّةٍ. كان ادِّعاؤُها ذاك تَهديدًا مُبطَّنا بِما لها مِن نُفوذٍ، وما كانت تَنوِي أداءَ واجبِها تجاهِي حتّى لوِ انفجرَ الْمحلُّ بِمَن فِيه.

² (ملاحظة: "شْكُونْ": كلمةٌ في اللّهجةِ التّونسيّة تُؤدّي معانيَ عدّةً حسب السّياق. أهـمُّها: 'مَنْ؟'، 'شَخْصٌ مَّا'، 'شَخصِيَّةٌ مُتَنَفِّذَةٌ'..) ².

- بِمجرّدِ أن عُيِّنَ أحدُ مُديرِي المؤسّسات التّربويّة، كَلَّفَ بعضَ حُلفائِه بتروِيجِ الخبرِ الآتِي: إنّه مربوطٌ ربْطا مباشِرا عابرا لِكلّ الحواجز بِمسؤولٍ كبيرٍ في وزارةِ التّربية والتّكوين. لا يعْنينِي في هذا المقام صدقُ مضمونِ الخبرِ مِن كذِبه. يهمُّنِي أنّ ترويجَه ليس اعتباطِيّا ولا عفْويّا. فأسوأُ دلالاتِه الإيحائيّةِ أنّه تَهديدٌ لِكلِّ مَن تُسوِّل له نفسُه التّمردَ أوِ الخروجَ عن الصِّراطِ المستقِيم الّذي سَطّره السّيّدُ المديرُ. وأحسنُها على الإطلاقِ أنّه اعترافٌ جميلٌ بأنّ هذا الموظّفَ المؤتَمنَ على الحرَمِ التّربويِّ تعُوزُه الكفاءةُ المهنيّةُ الّتِي يستطيعُ بِها ملْءَ منصبِه. فهرَعَ إلى الاِتّكاءِ على 'شكُون' لِيغطّيَ عجزًا متأصِّلاً يُدركُه هو أكثرَ مِن أيٍّ كانَ. وهذا التّرويجُ يُشبه الضّربةَ الوِقائيّةَ الّتي برعَ فيها 'شُرطِيُّ العالَمِ' [كنيةُ الولايات المتّحدة الأمريكيّة].

- رَوتْ لنا زميلة ٌ مربِّيةٌ أنّها ساقتْ سيّارتَها بسُرعةِ البرقِ داخلَ مناطقِ العُمران حيثُ حُدِّدتِ السُّرعةُ القُصوَى بِـ 50 كيلومترا في السّاعةِ. أشارتْ لها شرطةُ المرورِ بالتّوقّفِ. فلمْ تأتَمِرْ تحدِّيا واستِهانةً واعتدادًا بالنّفس. فلاحقتْها سيّارةُ الشّرطةِ بضعَ كيلومتراتٍ حتّى أجبرتْها على التّوقّف، وسَحبتْ منها رخصةَ السِّياقةِ. قالتْ مُحدِّثتُنا: «أُراهنُكمْ على أنْ أَسترجعَ رخصتِي خلالَ يوميْن، 'عندِي شْكُونْ' في الدّاخليّة». وربِحتِ الرّهانَ بلا منازعٍ. شدّتْنِي في هذه الواقعةِ المستعادَةِ يوميّا لهجةُ الخِطاب المشحُونةُ باستعراضِ 'العضلاتِ السُّلطويّة'. هي لهجةٌ تجعل التّطاولَ على القانونِ وعلى مُنفّذِيهِ وتعريضَ سلامَةِ النّاسِ للخطرِ فخْرا صريحًا يكشِفُ مدَى تضخُّمِ 'الأنَا غيرِ المواطِنةِ'.

- تُصدِّقُ الوقائِعُ هذه العبارةَ وتُضفِي عليها شرعيّةً لا يُستهانُ بِها. يكفِي أنْ أذكرَ أنَّ الشّكاوِيَ الّتي يُقدِّمها الإطارُ التّربويّ مثلاً لا تتجاوزُ في تَقْديرِي المتواضِعِ العَشْرةَ بالمئةِ [10٪] مِن العددِ الحقيقيّ للتّجاوزات والاعتداءات الواقعةِ ضِدَّه. مِن هذه النّسبةِ الضّعيفةِ أصلاً لا يكادُ القانونُ ينظرُ نِظرةً فعليّةً إلاّ في عُشُرها. بل يحدُثُ أنْ يُهدَّدَ الشّاكِي بتسليطِ نفسِ العُقوبةِ عليه وعلى خصمِه إنْ لم يسحبْ تقريرَهُ ولم يُدركْ سريعًا أنّ الشّكوَى لله لا لِلبشرِ.

- في إحدى الْمحاكمِ الابتدائيّة حدّثنِي، بنَفَسٍ عَدَمِيٍّ، مواطِنٌ أمِّيٌّ معدَمٌ مُهمَّشٌ عن المذنِبين الّذين تقودُهم الشّرطةُ بعد مطارداتٍ مُرهِقةٍ إلى قاعةِ المحكمة عبرَ البابِ الرئيسيِّ، وإذا بِهِمْ يغادرونَها بقدرةِ قادرٍ مِن الأبواب الخلفيّةِ لنفس المحكمةِ. يكفِي أن يرِنَّ الهاتفُ لتحصُلَ المعجزةُ. ربّما يكونُ هذا دليلاً على أنّ بعضَ المؤسَّساتِ القضائيّةِ تعُبُّ عبًّا مِن وسائلِ الاتّصالِ الحديثة.

- تعرّضتْ مواطِنةٌ إلى الاعتداءِ بالعنفِ اللّفظيّ والتّهديدِ باستعمال العنفِ البدنِيّ في نُزلٍ محترَمٍ. أمّا المعتدِي فهو قاضٍ. تتلخّصُ الحادثةُ في أنّ القاضيَ اعتادَ أنْ يُقضِّيَ ليلتيْن أسبوعيّا في النّزلِ المذكور. وفي الصّباحِ يسلِّمُ مفتاحَ الغرفةِ الّتي دأبَ على النّومِ فيها إلى قسْمِ الاستقبال. هكذا تصيرُ الغرفةُ على ذِمّة أيِّ وافدٍ جديدٍ. حلّتْ بالنُّزل حريفةٌ تعوّدتْ هي أيضا قضاءَ ليلةٍ مِن كلِّ أسبوعٍ هناك لأسبابٍ مِهنيّة. فسلّمَها موظّفُ الاستقبالِ مفتاحَ تلك الغرفةِ الشّاغرةِ. لكنْ عاد القاضِي ليلاً إلى النّزل دون سابقِ إعلامٍ لِيبيتَ ليلةً أخرى. وطلبَ بِحزْمِ رجُلِ القانون أنْ تعودَ إليه 'غرفتُه' في الحينِ وأنْ يتمّ ترحيلُ المواطنةِ وهي بلباس النّوم إلى غرفةٍ أخرى. تردّد موظفُ الاستقبال لأنّ الأمرَ لا يَجوزُ قانونيّا وأخلاقيّا. فأرغَى القاضِي وأزبدَ وهدّد وتوعّد. رضَخَ الموظّفُ مُرتعِدا، وقصدَ غرفةَ النّزيلة يطلبُ منها تنفيذَ الحكمِ الصّادرِ ضدَّها. فرفضتْ رفضًا قاطعا كما يجدرُ بأيِّ مواطنٍ يحترمُ نفسَه أنْ يفعلَ. ولا تَسَلْ عن رَدّةِ فعلِ قاضِي القُضاة هذا: انْهالَ على النّزيلة قذْفًا وسبًّا وثلبًا، وبدا زادُه اللّغوِيُّ في هذا البابِ أغنَى مِن كلِّ قذاراتِ الشّارع التّونسيّ. حتّى مفاتيحُ القاضِي خرجتْ مِن غِمدها وصفعَتْ وجهَ المديرِ الإداريّ الذي تحرّكتْ فيه نَخوةٌ مّا مُحاولاً الخروجَ بأخفِّ الأضرار. ولو أطلقَ سيّدِي القاضِي العِنانَ لحذائِه لكسَرَ زُجاجَ وزارةِ العدل وداسَ حُقوقَ الإنسانِ فصلاً فصلاً بِلا رادِعٍ ودون أن يدفعَ خطيّة تخريبِ الْمِلك العامّ.

- إلى هنا الأمرُ عاديٌّ  مألوفٌ لا يفاجِئُ أحدًا تقريبا. فمتَى تبدأ الكارثةُ الحقيقيّة؟ بدأتْ حسْبَ رأيِي عندما انقلبَ جميعُ الموظّفين والعمَلةِ ضدَّ النّزيلةِ كاسِحةِ الرّأس ليُنقذُوا رؤوسَهم مِن احتمالِ تُهمةٍ مُلفَّقةٍ تُلقِي بِهم في غَياهِبِ السّجون، عندما فعلَ التّرهِيبُ فِعلَه المدمِّرَ فيهِمْ حتّى هَتكَ الذِّمامَ وجمّدَ الهِممَ، عندما جاءتِ الشُّرطةُ مُرتبِكةً على وجهِ السّرعة لتؤيِّدَ القاضيَ في استرجاعِ الغُرفةِ موضوعِ النّزاع.

- هذا المعتدِي قد تطاولَ أوّلا وقبلَ كلّ شيءٍ على القانون الّذي يعلُو ولا يُعلَى عليه مِن حيثُ المبدأُ على الأقلّ، وتطاولَ بالقانون على النّزل بكلِّ مَن فيه، وتطاولَ على أهلِ القانون بانتمائِه الْمُخزِي إليهِم. والنّتيجةُ أنّه تطاولَ على قِيمِ المواطَنةِ جميعِها، وهذا أهمُّ ما يعنِينا الآنَ. لسنا بِحاجةٍ إلى أنْ نُحصيَ كمْ مرّةً خانَ هذا القاضِي قسَمَه: كمْ مُجرِما خَرج مِن بين يديْه 'مُدانًا بالبراءَةِ' وكمْ بريئا أحْكمَ قبضتَه عليه 'بتُهمةِ اللاّذنْبِ'.

- فِي السّوقِ المركزيّة تفطّنتُ إلى أنّ بائعَ السّمك غشّ البضاعةَ الّتي طلبتُ أثناء وزْنِها. فامتنعتُ عنِ الشّراء. هاجَ الغشّاشُ وماجَ. ثُمّ قال بأعلى صوته ليُسمِعَ الزّملاءَ والحرفاءَ: «لستُ أجيرا عندَكِ». ولم أفهمْ إلى الآن صلةَ هذا القولِ بالحادثةِ، وإنْ كنتُ أتفهّمُ رغبةَ البائعِ في أنْ يُثبتَ أنْ لا سُلطةَ لِي عليه أمنعُه بِها مِن أنْ يغُشّنِي. وربّما صارتِ العبارةُ الجاهزةُ مِن قبيلِ اللّوازمِ اللّغويّةِ الّتي يَزِلُّ بِها اللّسانُ عنْ غيرِ قصدٍ وفي غيرِ مقامِها.

- في مِهنتِنا الشّقيّةِ تَمتنعُ قيِّمةٌ مّا عن أداءِ واجبها المهنِيّ تجاهَ تلاميذِي. فأجمعُهم بنفسِي مِن السّاحة بينما تؤدِّي هي دورَ المراقِبِ المتواكِلِ المتشفِّي. تفعلُ هذا لِتُثبتَ لي أنّها ليستْ أجيرةً عندي، كما لو أنّها تشكُّ في الأمرِ. ويرفض قيّمٌ مّا أنْ يُعلمَ تلاميذِي بمدّة غيابِي الّتي أعلمتُ بِها الإدارةَ في الثّامنةِ صباحًا مِن أوّل يومِ غيابٍ، تارِكا إيّاهم ينتظرون الأيّامَ الطِّوالَ هدرًا، عسَى أنْ يُقنعَهم بأنّ أستاذتَهم لا تَحترِمُهم ولا تراعِي شقاءَهم، وعسَى أنْ يُقنعنِي بِما لا يدَعُ مجالاً للشّكِّ بأنّه ليس أجيرا عندِي. والدّليلُ القاطِعُ أنّه يعبثُ بالواجبِ الأخلاقيّ كيفمَا شاءتْ عُقَدُهُ. في المقابل يخدِشُ مديرٌ مّا هيْبتِي ويتلاعبُ بكلِّ عقوبةٍ أقترحُها فاتِحا بابَ العبثِ التّربويِّ والعنفِ التّلمذِيِّ على مِصراعيْه. يتفنّنُ في هذا باقتدارٍ لا نظيرَ له، ربّما ليُثبتَ لي أنّنِي أنا الأجيرةُ عندَه! فمَن يدرِي قد أركعُ وقتَها خاشِعةً عند قدميْه مبتهِلةً بالدّمعِ السّخيّ: «رُحْماك! لا سيّدَ في الأرضِ سِوَاك».

- في المقابل يُعدُّ تطبيقُ القانونِ إهانةً لا يستسِيغُها المعتدِي لِمُجرّدِ أنّ الشّاكِيَ المتضرِّرَ أقلُّ مِنه مرتبةً. فقدْ حكَى لي جنرالٌ بألَمٍ كبير، أنّه أُحِيلَ على الْمحكمةِ العسكرِيَّةِ بتُهمةِ الاعتداءِ اللّفظيّ والبدنِيّ على أحدِ المواطنين. قال مُستنكِرا: «تصوَّرِي! أنا الجنرالَ بكلِّ ما عندِي مِن 'نُجوم' أقفُ في قفصِ الاتّهام أمام القاضِي العسكريّ بسبب مُدّعٍ عجوزٍ جِلفٍ لا يعرفُ حتّى كتابةَ اسْمِه!». صحتُ مُهلِّلةً دون أيِّ سوءِ نيّة: «يا لَلرّوعةِ! هذا دليلٌ على وجودِ العدلِ». سكتَ محُدِّثِي عنِ الكلام المباحِ. صدمَه اسْتحسانِي الأمرَ بقدْرِ ما صدَمنِي استهجانُه إيّاه. أعتقدُ أنّه لو كانَ الشّاكي الأمينَ العامَّ للأممِ المتّحدةِ مثلاً لَقبِل المتّهَمُ أنْ يُحاكَم بصَدرٍ رحْبٍ، وربّما عَدّ الأمْرَ تكريمًا وتوسِيمًا. أمّا أنْ يُقاضِيَه مَن هو أقلُّ شأنًا مِنه فلاَ. هذا دليلٌ على أنّ نِظرتَنا إلى القانون ما تزالُ طَبقيّةً رغم ما تُلحُّ عليه النّصوصُ القانونيّةُ مِن المساواة بين كلِّ المواطنين.

- حدثَ معِي أنّ أحدَ أعضاءِ 'المافيا' أغراهُ حجمُ كتابٍ طلبتُ نسخَه، فبعثَ إليّ باحثةً مشبوهةً تنصحنِي بالتّعاونِ المثمرِ. رفضتُ، واتّبعْتُ الإجراءاتِ الإداريّةَ اللاّزمةَ. كانتِ النّتيجةُ أنِ انتظرتُ النّسخةَ المدفوعةَ الثّمنِ مسبّقا أربعةَ أسابيع بلا جدوَى، والحالُ أنّ عددَ صفحاتِ الكتابِ تَسمحُ بنَسخِه قانونيّا في ثلاثةِ أيّامٍ. وإذا بالكتابِ يندثرُ ولا يُعثَر له على أثرٍ، لَمْ يصلْ إلى مصلحةِ النّسخِ ولَم يعُدْ إلى موقعِه مِن الرُّفِّ. فتدخلتْ مسؤولةٌ، وأمَرتْ أنْ يخرجَ الكتابُ ولوْ مِن باطنِ الأرضِ. انطلقتْ حَمْلةُ التّفتيشِ. وأخيرا ظهرَ المبحوثُ عنه بعدَ أنْ مُزِّق غلافُه الخارجيُّ بفِعلِ فاعلٍ للإيهامِ بأنّه يحتاجُ التّرميمَ مع أنِّي تسلّمتُه ثُمّ سلّمتُه سليمًا مُعافًى.

- يُؤدِّي الفراغُ القانونِيُّ أيضا إلى ارْتكابِ العنفِ المعنوِيِّ المتستِّرِ بأداءِ الواجبِ المهنِيِّ. أضرِبُ على هذا مِثالا عِشتُه: اقتحمَ قاعةَ درسِي موظّفٌ إداريٌّ لِيجْمعَ أموالَ الدّروسِ الخصوصيّةِ لمادّةٍ أخرَى لا صلةَ لِي بِها. ولأنّه قرّرَ تنفيذَ الأمْرِ قبلَ إنجازِ الحصّةِ الأخِيرة مِن تلك الدّروسِ، فقدْ وَجدَ أنّ أغلبَ التّلاميذِ لم يجلبُوا المبلغَ معهم. لَم يتردَّدْ في إقصاءِ ثُلثيْ القسمِ مِن درسِ إصلاحِ الفرضِ العاديِّ مع الرّابعة آداب. اتَّخذَ العقوبةَ الجماعيّةَ الممنوعةَ قانونًا دون أن يَستأذِننِي. وغادرَنا مُعزِّيا النّفسَ بنَزْرٍ يسيرٍ مِن المال. استدعيتُ السّيّدَ المدِيرَ، فأعاد جَمْعَ التّلاميذِ مِن السّاحة. ثُمّ استأنفتُ الدّرسَ الْمُجزّأَ الْمُهانَ بعْد ضياعِ حواليْ عشرين دقيقةً مِن توقيتِه الرّسْميّ. إنّي لَأعجبُ مِن مهارةِ بعض الإداريّين في جمعِ المالِ بقدرِ ما أعجبُ مِن استهتارِهم بالواجباتِ المهنيّةِ الحقيقيّةِ!

- لقد رأيتُ بأمِّ عينِي مطلبَ مُناقلتِي الّذي تتوفّرُ فيه كلُّ الشّروطِ القانونيّة، على طاولةِ موظّفٍ صغيرٍ بإحدَى الإدارات الجهويّةِ الدّاخليّةِ بعد ثلاثةِ أشهُرٍ وبضعةِ أيّامٍ مِن تاريخِ تقدِيمه. أُؤتُمِن ذاك الموظّفُ على صيانةِ مطلبِي مِن الهواءِ والعيونِ المتطفِّلةِ والأيادِي العابثةِ. فأخفاهُ عنْ أصحابِ القَرارِ عامّةً. يكمنُ السّرُّ في أنّ مُديرِي المباشرَ أقسَمَ مُتحدِّثا عنّي: «سأجعلُها تَمُوتُ هُنَا!». فاتَهُ أنْ يختارَ مكانَ مولدِي، فارْتأَى أنْ يُعوِّضَ النّقصَ الحاصلَ بتأمُّلِ جثّتِي المتحلِّلةِ.

- لقد تطوّرتْ كلُّ المعارفِ والعلومِ والخدماتِ بتخطئةِ مُصادراتِها والطّعنِ في نتائِجِها. ولا أظنّ أنّ أيَّ إدارةٍ تخرجُ عن هذا المبدإ العِلميِّ-الاجتماعيِّ. فهل سَتراجعُ السّلطةُ الإداريّةُ مُصادراتِها المتهافِتةَ؟ وهل سيجدُ القَانونُ طَريقَه إلى التّطْبيقِ في قادمِ السّنَوات؟ أخْشَى أنْ أقولَ في مُقبلِ القرونِ كيْ لا أُحبِطَ عزائمِي ولا أُرْمَى بالتّهافُتِ والتّشاؤمِ والسّوْداويّة.

³ فوزيّة الشّطّي ³

تونس: 2011.09.18

w العدميّةُ: «تدلّ على موقفٍ في الفكرِ والفلسفةِ وتطبيقِ العمل. والعدمِيّون هم أولئك الثّوارُ الرّوسُ الّذين ظهروا إبّانَ حكمِ القيصرِ 'ألكسندر الثّاني' [1855-1881]. راجتْ تسميتُهم على يدِ الرّوائي 'تورجنيف' في قصّتِه «الآباءُ والبنونُ». فصارتْ تعني أولئك الّذين لا يُوافقون على شيءٍ ينتمي إلى النّظامِ القائم. وأخذُوا منذ 1878 في شنِّ حملةٍ إرهابيّة بلغتْ ذروتَها بمقتلِ القيصر». عن: موسوعةُ السّياسة، عبد الوهاب الكيّالي، جزء 4، ط 2، 1990، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر.


مدينةُ المنستير، الجمهوريّة التّونسيّة

عدسة: فوزيّة الشّطّي

2020-10-29

مقال: (الإرهابُ المخابراتيّ الفرنسيّ)، 2020

صورة مِن النّات

الإرهابُ المخابراتيّ الفرنسيّ 

العمليّةُ 'الإرهابيّة' الّتي جدّتْ اليومَ 2020.10.29 في فرنسا (المستعمرة الصّهيونيّة غير المعلَنة منذ ما يُسمّى 'ثورة 1789') قرب إحدى الكنائس بمدينة 'نيس' وراح ضحيّتَها ثلاثةُ أبرياء، تخدمُ ثلاثةَ أهداف على الأقلّ:

1- اِمتصاصُ الغضب العارم الّذي أثارتْه التّصريحاتُ الماكرونيّة لدى العرب والمسلمين والعقلاء المتنوّرين في العالم الغربيّ. والمعلومُ أنّه ما كان للتّافهِ الأبله المنحرف نفسيّا 'إيمانويل ماكرون' أن يحظى بأيِّ منصب حكوميّ لولا أن جنّدتْه 'المافيا البنكيّة الرّوتشيلديّة' لتُنصِّبه، وهو الجاهلُ بالشّأن السّياسيّ جهلا مطبقا، رئيسًا على إحدى أقوى دول العالم.

2- إجبارُ الفرنسيّين على الرّضوخ لقرار 'الحجر الصّحّيّ' المقرّر غدا بحجّة الحماية مِن 'الخدعةِ الكورونيّة' والّذي هو سجنٌ جماعيّ ساديّ تحت سماء مفتوحة يسعى إلى القضاء على الاحتجاجاتِ الشّعبيّة ضدّ السّياسة اللّيبراليّة المتوحّشة الّتي انتهجها النّظامُ الماكرونيّ. بل يمثّل الحجرُ اللاّصحّيّ فصلا مِن إرهاب الدّويْلة الماسونيّة ضدّ مواطنيها العزّل.

3- إقناعُ الرّأي العامّ الفرنسيّ والغربيّ بأنّ ما يُسمَّى 'الإرهاب الإسلاميّ' هو شرٌّ مطلَق يجب محاربتُه بتوسيع نطاق التّطبيع العربيّ مع المافيا الصّهيونيّة. على هذا الأساس كلُّ رافض للتّطبيع مع الصّهاينة هو داعمٌ للإرهاب 'الإسلاميّ' تطبيقا للشّعار الدّيمقراطيّ-الأمريكيّ: 'مَن ليس معي فهو ضدّي'.

إذنْ، هذه العمليّةُ 'الإرهابيّة' هي، تماما كسابقاتها في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتّحدة الأمريكيّة وغيرها مِن الدّول المحكومة ماسونيّا، ضربةٌ مخابراتيّة تؤدّي أهدافا سياسيّة شيطانيّة. وليس المنفِّذون المسلمون، إن وُجِدوا، إلاّ أداةَ تنفيذ تمّ غسلُ أدمغتهم الفارغة وشحنهم أو مجرّدَ ضحايا أوقعهم سوءُ الحظّ في الفخّ المخابراتيّ ليكونوا أكباشَ فداء. والدّليلُ أنّ 'الأمن الفرنسيّ' يقتل دوما المنفّذين المزعومين للعمليّات 'الإرهابيّة' على عين المكان. وذلك لإسكاتهم نهائيّا. فالخدعةُ الهشّة لا تتحمّل أيَّ انفضاح. لكنّه، ويا لَلمفارقة، يعثر على وثائق تؤكّد جنسيّتَهم وانتماءَهم الدّينيّ. كأنّما 'الإرهابيّون' المزعومون مهوُوسون بالحرصِ على مساعدة العدالة الماكرونيّة-الرّوتشيلديّة في سعيِها إلى كشف 'الحقيقة' الّتي يريدُ شياطينُ السّياسة أن يُقنعُوا بها القطيعَ البائسَ الأعمى البصيرة السّائرَ إلى حتْفه.

فوزيّة الشّطّي

تونس: 2020.10.29



الرّسّام الكاريكاتويّ الموريطانيّ: خالد ولد مولاي إدريس

2020-10-13

بأيِّ قانون يمنعني مديرُ المعهد مِن استئناف العمل؟

رفض مديرُ المعهد أن يقبل استئنافي للعمل يومَ السّبت: 2020.10.09 على السّاعة 17د.12س. وكانتْ حجّتُه الواهية والخارجة عن القانون أنّه قد أرسل إليّ برقيّة، كما لو أنّ استئنافَ العمل لا يكتسب شرعيّتَه إلاّ بوثيقة البرقيّة الإداريّة. تبيّن لاحقا أنّ البرقيّة قد أُرسلتْ في اليوم نفسه (2020.10.09) ووصلتْ إلى مركز بريد القرية المتوسّطيّة صباحَ يوم الاثنين (2020.10.11) وتسلّمتُها مِن هناك ذاكَ اليومَ عند 30د.11س.


التّقريرُ في السّيّد مدير المعهد: أرسلتُه بالبريد المسجّل مع الإعلام بالبلوغ.

وثيقةُ الإعلام بمباشرة العمل الّتي رفض المديرُ تسلّمَها ومنحي الإيداعَ القانونيّ بشأنها

وصلُ البريد الخاصّ بوثيقة الإعلام بمباشرة العمل.

مراسلةُ البريد الخاصّة بالبرقيّة الإداريّة صدرتْ يومَ: 2020.10.09.

البرقيّةُ الإداريّة الّتي تسلّمتُها صباحَ يوم الاثنيْن: 2020.10.11.


2020-09-23

أبو حامد الغزالي والفلسفةُ، 1993-1994


 فرضٌ حضوريّ: أبو حامد الغزالي والفلسفةُ  

شهادة: الحضارة القديمة

إعداد الطّالبة: فوزيّة الشّطّي

كلّيّةُ الآداب بمنّوبة تونس

السّنة الجامعيّة: 1993-1994

الموضوع:

«لَـمْ يَكُنْ مَوْقِفُ الغَزَالِي مِنَ الفَلْسَفَةِ إِلاَّ صُورَةً عَنِ الخُصُوصِيَّةِ الـمَعْرِفِيَّةِ السَّائِدَةِ فِي عَصْرِهِ. نَاقِشْ».

المقدّمة:

لقد شهدت الحضارةُ العربيّة الإسلاميّة، خاصّة مع بداية ق3ه، تطوّرا مكثَّفا ومتعدِّدَ الرّوافد أدّى إلى نشأةِ مذاهب فكريّة ودينيّة ذات تفريعات متنوّعة. فهذه الفترةُ التّاريخيّة تمثّلُ مجالَ نشأةِ العلومِ الإسلاميّة أو اكتمالها. وهنا تتنزّل الفلسفةُ الإسلاميّة الّتي نشأتْ في أحضانِ حركةِ التّرجمة عن الإرث الفكريّ اليونانيّ ثمّ اشتدّ عودُها بالشّرح والنّقد والإنتاج. ومع تضخّمِ أهـمّيّة الفلسفة في القرونِ اللاّحقة ظهرتْ عدّةُ ردودِ فعلٍ تجاهها. كان أهـمَّها موقفُ أبي حامد الغزالي [450-505ه/1058-1111م] في ق5ه/ق11م. فهل كان موقفُ الغزالي مِن الفلسفة مجرّدَ صورةٍ للخصوصيّةِ المعرفيّة السّائدة في عصره؟ أم هو ثمرةُ تجربةٍ فلسفيّة ذاتيّة خاضها 'حجّةُ الإسلام' بمنهجِه الخاصّ في معالجة القضايا الوجوديّة مِن وجهة نظر دينيّة صوفيّة؟

الجوهر:

I-  موقفُ الغزالي مِن الفلسفةِ صورةٌ عن الخصوصيّةِ المعرفيّةِ في عصره:

1-       واقعُ الانحطاط الحضاريّ:

مع بدايةِ ق4ه أخذت الأمّةُ الإسلاميّة تشهدُ تراجعا على المستوياتِ السّياسيّة والاجتماعيّة والمعرفيّة. تجلّى ذلك في تفكّكِ الحكم الملكيّ القائم على الوراثة دون الشّورى وانتهاءِ الفتوحات الإسلاميّة واتّساعِ الصّراعات المذهبيّة والسّياسيّة داخليّا... أدّى هذا الواقعُ إلى إحداث تغييرات كبيرة في طبيعة المجتمع العربيّ الإسلاميّ ككلٍّ.

2-       نشوءُ حركاتٍ فكريّة ردّا على واقع الانحطاط:

في هذه الظّرفيّة الحضاريّة المتأزّمة، وَجدتْ عديدُ المذاهب والتّيّارات الفكريّة المناخَ الخصب للنّشأةِ والتّوسّع والتّشعّب. مِن ذلك المذاهبُ الباطنيّة الّتي تؤوّل النّصوصَ الدّينيّة عن معناها الظّاهر المستنبَط بوسائل لغويّة وشرعيّة وعقليّة إلى معانٍ باطنيّة غير مألوفة لا يُدركها إلاّ الّذين اصطفاهم اللهُ بهذه المعرفة وألهمَهم إيّاها. ومنها الحركاتُ الصّوفيّة الّتي تنوّعتْ طرقُها ومراتبُها وجهازُها المفهوميّ حسب تنوّعِ شيوخها. بيد أنّها اتّفقتْ على أنّ المعرفةَ الحقّ تكون مِن طريق الإلهام الشّبيه بالوحي. وذلك بأنْ يكشفَ اللهُ لعبده الّذي اصطفاه بعد مجاهدةٍ شاقّة الحقائقَ الرّبّانيّة الكونيّة. كان مِن أعلامِ التّصوّف قبل الغزالي:

- رابعة العدويّة الشّاعرةُ العراقيّة الـمُكنّاة بـ 'أمِّ الخير': [100-180ه/717-796م]،

- الحارث بن أسد الـمُحاسبيّ العراقيّ المكنّى بـ 'أبي عبد الله': [170-243ه/781-857م]،

- أبو يزيد البسطاميّ الـخُراسانيّ الأصل الـمُلقَّب بـ 'سلطانِ العارفين': [188-261ه/804-874م]،

- أبو القاسم الجنيْد الفارسيّ الأصل الفقيهُ الملقّبُ بـ 'تاجِ العرفين': [215-297ه/830-910م]،

- الحسن بن منصور الحلاّج الشّاعرُ العراقيّ الملقّب بـ 'أبي مُغِيث' [244-309ه/858-922م]،

- أبو بكر بن دلف الشّبلي الشّاعرُ الخراسانيّ الأصل: [247-334ه/861-946م]،

- أبو طالب المكّيّ الخراسانيّ الأصل وصاحبُ كتاب 'قُوتُ القُلُوبِ': [ت.386ه/998م]،

3-       الغزالي ذروةُ التّوجّه الصّوفيّ:

يُعدّ أبو حامد ذروةَ هذا التّوجّه الصّوفيّ. إذ حاول أن يجعل التّصوّفَ في الإسلام علما مبوّبا مدوَّنا بعد أن كادَ يكون سلوكا وعبادة فقط: إذ كان المتصوّفون يتلقّون غالبا الآدابَ والأحكام بالممارسة السّلوكيّة أي أن يأخذَ كلُّ مريد عن شيخه أخْذا مباشِرا حتّى يتقنَ الطّريقةَ.

رأى الغزالي أنّ الإسلامَ السّنّيّ هو المذهبُ الصّحيح والنّظامُ الوحيد في التّفكير والحياة. انشغل بحماية العامّة مِن أخطار المذاهبِ الدّينيّة المسيَّسة الّتي اعتنقت السّرّيّةَ والغُلوَّ والعنفَ. بل حرص على حماية النّاس مِن أخطار الفلسفة على إيمانهم. فكان لجوؤُه إلى رحابِ التّصوّف بعد أن فقد الثّقةَ في جميع طرقِ المعرفة اليقينيّة الواعية كالتّقليد والحسّ والعقل. اِستعادَ اليقينَ بنورٍ يقذفه اللهُ في صدره مِن حيث لا يدري. وهذا ما أعاد له الثّقةَ في الضّروريّات العقليّة والمحسوسات والرّواية (النّقل). وفي "الـمُنْقِذُ مِنَ الضَّلاَلِ" اِختزل الغزالي، بعد أن انخرط في عمقِ التّجربة التّصوّفيّة، عصارةَ فكره ومجملَ مواقفه مِن علم الكلام والمذاهب والفلسفة. ومنذ مقدّمةِ الكتاب يبدو موقفُه مِن الفلسفة أقرب إلى الازدراء والعِداء مِنه إلى التّعايش والتّحاور. إذ يقول مُستحضرا المخاطَبَ الافتراضيّ 'الأخَ في الدّينِ': «وَأَحْكِي لَكَ مَا قَاسَيْتُهُ فِي اسْتِخْلاَصِ الحَقِّ [...] ومَا ازْدَرَيْتُهُ، ثَالِثًا، مِنْ طُرُقِ التَّفَلْسُفِ...»[1].

4-       الغزالي والرّصيدُ الفلسفيّ:

في ق5ه كان قد تكوّنَ رصيدٌ فلسفيّ ضخم عند العربِ المسلمين. وتُعرَّف الفلسفةُ عامّة بكونها علمَ قوانين الوجود والتّفكيرَ الإنسانيّ السّاعي إلى إدراك المعرفةِ الحقّ. فهي والشّريعةُ معنيّتان بالبحثِ عن الحقيقة نفسِها، لكنْ بأدوات مختلفة. أمّا الغزالي فقد خصَّ بالذّكر فيلسوفيْن. أوّلُـهما 'أبو نصر محمّد الفارابي' [260-339ه/874-950م] الّذي تمثّلتْ محاولتُه الرّئيسة في التّوفيقِ بين تعاليم الإسلام والفلسفة اليونانيّة خاصّة منها فلسفة أفلاطون وأرسطو مُستعينا في ذلك بالمنهج العقليّ وحده. وثانيهما 'أبو عليّ بن سينا' [370-427ه/980-1037م] الّذي ساهم في نشرِ التّراث العلميّ والفلسفيّ خاصّة منه تعاليم أرسطو واجتهد في تعميمِ التّفكير العقليّ ونشرِ العلم الطّبيعيّ. اِعتقد في خلودِ المادّة، واعتبرها علّةَ تنوّع الأشياء الجزئيّة، وعارض التّنجيمَ والخرافات انتصارا للعقل. كان لهذيْن الفيلسوفيْن قيمةٌ خاصّة لتأثيرهما العميق في توجّهات الفلسفة الإسلاميّة.

أمّا الغزالي فقد بدّع الفلاسفةَ في سبعَ عشرةَ مسألةً وكفّرهم في ثلاثةٍ. قرّر ذلك بعد أن عبَرَ مِن شكِّ الفلاسفة واضطرابِ آرائهم في فترةٍ حاسمة مِن حياته إلى يقينِ المتصوّفة ورسوخِ قناعاتهم. صاغَ 'حجّةُ الإسلام' مواقفَه مِن الفلسفة ومِن غيرها مِن العلوم على أساسِ مذهبِه السّنّيّ الشّافعيّ وعقيدتِه الأشعريّة وطريقتِه الصّوفيّة. صار هذا 'الثّالوثُ الإيمانيّ' عنده سبيلا إلى الحقيقة. وبما أنّ الغزالي انطلق في نقد الفلسفةِ مِن ثوابت عقائديّة، فإنّ موقفَه مِنها قد اتّخذ طابعا إيديولوجيّا. الـجزمُ بأنْ لا حقيقةَ إلاّ في التّصوّف تجعلُ الفلسفةَ إحدى مظاهر البِدعة في ذلك الظّرف التّاريخيّ الّذي بلغَ فيه الاجتهادُ حدودَ الابتداع.

II-                 موقفُ الغزالي مِن الفلسفةِ ثمرةُ تجربةٍ فلسفيّة ذاتيّة تمّتْ بمنهجٍ دينيّ:

اِنتهى الغزالي إلى موقفه الباتّ مِن الفلسفة متوسِّلا فكرا دينيّا متكاملا.

1-       قال عنه آرنست رينان[2]: «إِنَّهُ الوَحِيدُ بَيْنَ فَلاَسِفَةِ الـمُسْلِمِينَ الَّذِي انْتَهَجَ لِنَفْسِهِ طَرِيقًا خَاصًّا فِي التَّفْكِيرِ الفَلْسَفِيّ»[3]. وقد تمثّل جانبُ التّميّز لدى الغزالي بالنّسبة إلى سابقيه أو معاصريه مِن الأشاعرة والمتصوّفة، أنّه انطلق في أحكامه على الفلسفة مِن رؤية متكاملة للفكر وللوجود قوامُها الإسلام عقيدةً وسلوكا. وكان تصوّفُه معتدلا سـمتُه حضورُ القلب الخاشع والتّمسّكُ بالشّعائر الإسلاميّة والالتزامُ بالعبادات على منهاجِ الزّاهدين مِن السّلف والتّحرّرُ مِن العلاقات الدّنيويّة. بهذا جمع بين أحكامِ الورع والتّقوى وبين آدابِ المتصوّفين.

2-       تجلّى الغزالي في صورةِ الفقيه الأشعريّ الحسنِ المعرفة بالفلسفة، الحريصِ على "نقاءِ" الشّريعة الإسلاميّة مِن كلّ ما عداها. فالشّريعةُ عنده هي القيِّمةُ على باقي العلومِ الإسلاميّة وهي المؤدّيةُ إلى الحكمة الإلاهيّة. فقد أطلق أحكامَه على الفلسفة بعد أن "استكملَ" علمَه بخصائصها ومنطقها الدّاخليّ. إذْ يقول في 'الـمُنقذ': «وَعَلِمْتُ يَقِينًا أَنَّهُ لاَ يَقِفُ عَلَى فَسَادِ نَوْعٍ مِنَ العُلُومِ مَنْ لاَ يَقِفُ عَلَى مُنْتَهَى ذَلِكَ العِلْمِ حَتَّى يُسَاوِيَ أَعْلَمَهُمْ فِي أَصْلِ ذَلِكَ العِلْمِ. ثُمَّ يَزِيدُ عَلَيْهِ، ويُـجَاوِزُ دَرَجَتَهُ. فَيَطَّلِعُ عَلَى مَا لَـمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ صَاحِبُ العِلْمِ مِنْ غَوْرٍ وَغَائِلَةٍ. وَإِذْ ذَاكَ يُـمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ فَسَادِهِ حَقًّا»[4].

3-       بدأ الغزالي متكلِّما، وانتهَى متصوّفا. فرّ مِن شكِّ الفلاسفة إلى يقينِ المتصوّفة. زعزعَ كيانَه الشّكُّ حتّى هدّأ روعَه اليقينُ. وقد طبعتْ هذه المسيرةُ مواقفَه بطابعٍ خاصّ. إذْ إنّ حالةَ الاطمئنانِ النّفسيّ الّتي توّج بها حياتَه الفكريّة والعلميّة كانتْ مِن طريقٍ واحد، أو تكاد، هو طريقُ التّصوّف. وهو طريقٌ يبدأ بالأخذِ عن المشايخ تعلّما وسماعا وينتهي بالانخراط نفسيّا وفكريّا وسلوكيّا في التّجربةِ الزّهديّة التّعبّديّة التّأمّليّة حتّى إدراكِ الحقيقة اليقينيّة تدريجيّا عبْر «الذَّوْقِ وَالحَالِ وَتَبَدُّلِ الصِّفَاتِ»[5]. إنّ «أَرْبَابَ الأَحْوَالِ» حسَب تعبير الغزالي في 'الـمُنْقِذُ'، هم الجديرون بالنّورِ الرّبّانيّ الّذي يُلقَى في قلوبهم الخاشعة.

إنّ الفلسفةَ، خاصّة مِنها الوضعيّة المنطقيّة، تعوّل على العقل البشريّ في محاولتها إدراكَ حقيقة الوجود. أمّا الغزالي، إذْ يكفّرها ويجعلها ضديدا للشّريعةِ الإسلاميّة، فإنّه يُقصيها مِن دائرة التّفكير النّقديّ خاصّة في مجال الإلهيّات. بل إنّه يجزم بقصورِ العقل البشريّ قصورا طبيعيّا أصليّا عن الإحاطةِ بعالم الغيب.

الخاتمة:

كان القرنُ الخامسُ للهجرة (5ه/11م) مجالا رحْبا لظهور أبي حامد الغزالي وتشكّله مفكِّرا إسلاميّا استثنائيّا، انشغل بشتّى العلوم الإسلاميّة متأثِّرا بها ومؤثِّرا فيها بحثا عن حقيقةٍ يقينيّة لا جدلَ فيها. هي حقيقةُ وجود الله صانعِ الحياة ومدبّرِ الكون. بيد أنّ منهجَه ظلّ أقربَ إلى حصْرِ ذاك النّور الإلاهيّ الّذي يقطع الشّكَّ ويمنح بردَ اليقين في ما يشبه 'الحُلولَ التّصوّفيّ'[6]. فالنّورُ الّذي يقذفه 'واجبُ الوجود' في قلبِ المؤمن يظلّ حِكرا على الخاصّة مِن العلماء دون أن يشِعَّ في قلوب عامّة المسلمين. مِن كلّ ما سلف، يجوز لنا الإقرارُ بأنّ 'حجّةَ الإسلام' الفقيهَ المتفلسفَ كان عنْ جدارةٍ، صوتَ القرنِ الخامس للهجرة والنّاطقَ بحاله. إذْ تجلّتْ في تآليفِه وسيرتِه نزعاتُ عصره الفكريّةُ ونزاعاتُ مجتمعِه المذهبيّةُ الّتي استوعبَها بقدر ما تجاوزها وحاورها بقدر ما أقصاها.

الهوامش:

1 أبو حامد الغزالي، المنقذُ مِن الضَّلال، ص: 22-23.

2 آرنست رينانُ Ernest Renan [1823-1892]: عميدُ حركةِ الاستشراق بفرنسا وأوروبا كلّها أثناء القرنِ التّاسعَ عشرَ.

3 سعيد السّلماني، 'الفلسفةُ الإسلاميّةُ بين التّقليدِ والتّجديدِ'، مجلّة 'الإصلاحُ' الإلكترونيّة.

4 أبو حامد الغزالي، الـمُنْقِذُ مِن الضَّلاَلِ، ص: 41.

5 نفسُ المصدر، ص: 82.

6 عقيدةُ الحلول: يعتقد القائلون بها أنّ اللهَ حالٌّ بعضِ مخلوقاته مُتّحِدا بها (الحلولُ الخاصّ) أو حالٌّ في كلّ شيءٍ وفي كلّ جزءٍ مِن كلّ شيء مُتّحِدا به (الحلولُ العامّ). وللحلولِ صلةٌ وثيقة بمفهوميْ الاتّحادِ ووحدةِ الوجود. بذلك صار يصحّ عندهم أن يُطلَقَ على بعض المخلوقاتِ أو على كلّ شيء أنّه اللهُ تغليبا للاّهوت (الألوهيّة) على النّاسوتِ (الطّبيعة البشريّة). نضربُ ثلاثةَ أمثلة على المذهب الحُلوليّ. أوّلُـها اعتقادُ بعض فرقِ النّصارَى أنّ اللهَ قد حلّ بالنّبيّ عيسَى بن مريم. فكانت للمسيحِ طبيعتان: لاهوتيّةٌ لـمّا كان يتكلّم بالوحي وناسوتيّةٌ عندما صُلِب. وثانيها اعتقادُ النُّصيْريّة (مِن غُلاة الرّافضة الشّيعيّة) بأنّ اللهَ حلَّ في الصّحابيّ ورابع الخلفاء الرّاشدين عليّ بن أبي طالب [23ق.ه-40ه/599-661م]. فصار عليٌّ، وقد حلّ فيه اللاّهوتُ، هو الإله. ثالثُها اعتقادُ بعض المريدين والأتباع بحلولِ روحِ الله في الصّوفيّ الحُسين بن منصور الحلاّج [244-309ه/858-922م].

المصدر:

-  الغزالي، أبو حامد، 'الـمُنْقِذُ مِنَ الضَّلاَلِ'، حقّقه وعلّق عليه: عبد الكريم المرّاق، الدّار التّونسيّة  للنّشر، الطّبعة 3، جانفي 1989.

المراجع:

-  الحسيني، محمود أبو الهدى، 'تصوّفُ الرّوّادِ الأوائلِ في القرنيْن الثّالثِ والرّابعِ الهجريّيْن'، 2013:

https://books.openedition.org/ifpo/3111

-  حمو، محمّد آيت، 'الغزالي بينَ حبِّ الفلسفةِ وكُرهِ الفلاسفةِ'، مجلّة 'الحكمةُ' الإلكترونيّة، 2015:

https://hekmah.org/%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%83%D9%8F%D8%B1%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9/

-  السّلماني، سعيد، 'الفلسفةُ الإسلاميّةُ بين التّقليدِ والتّجديدِ'، مجلّة 'الإصلاحُ' الإلكترونيّة:

http://alislahmag.com/index.php?mayor=contenu&mayaction=article&article_id=1634&idlien=189

./.