إرهابيّة وأنفي في الرَّغام
إيطاليا: أوت 2008
في سوق أسبوعيّ بأحواز مدينة "بيرودجا" تبادلتُ حديثا قصيرا مع بائعة عسل بيولوجيّ. كانت معي لطيفةً خدوما طلْقةَ الْمُحيّا. أبدتْ استعدادا لمساعدتي في انتقاء الْعسل الْأنسب. وسرعان ما دفعها فضولُ الشّعب الْإيطاليّ الْودود إلى أن تعرفَ من أكون مدّعيةً أنّها تريد أن تكلّمنِي باللّغة الّتي أفهم مادامتْ إيطاليّتِي الْمتعثّرةُ تعطِّلُ تواصُلَنا. أجبتُ: «عربيّةٌ مسلمةٌ من تونسَ». فردّتْ دون أن يرفَّ لها جفنٌ: «Non hai niente d’arabo». أي: «ليس فيكِ من العرب شيءٌ». ثُمّ أشاحتْ بوجهها عنّي، وتشاغلتْ بتنضيدِ بضاعتها، وغاضتِ الابتسامةُ الْعريضةُ مِن على وجهها بأسرعَ مِمّا ظهرتْ. أردفتْ بعد صمتٍ قصير بلهجةِ مَن يريد أن يضع حدّا للحديث مع "الْمشبوهين": «كلُّ الْعربيّات مُتّشحاتٌ بالسّواد من أعلى الرّأس إلى أخمص الْقدميْن». وقالت كلاما آخر لا أستحضرُ لفظَه، فيه إقرارٌ بأنّ نساءَ الْعرب جميعَهنّ "قروسطيّات" هيئةً وسلوكا ونمطَ حياة.
حاولتُ الدّفاعَ عن التّنوّعِ الّذي يحتضنُه مجتمعُنا والْإقناعَ بأنّ أولئك النّساءَ فئةٌ منّا ولسنَ الْمُمثّلَ الشّرعيَّ الْوحيدَ لنا. لكنَّ بائعةَ الْعسل لا تكاد تسمعنِي، بل لا تريد أن تبدِّل من مسلَّماتِها شيئا. هيمنتْ على قسماتِها الْمتوسِّطيّة الْمليحة أماراتُ الصّدمة والصّدِّ والْقرفِ. اِنتهتِ الْمحاورةُ بالضّربة الْقاضية لمجرّدِ كوني أنتمي إلى قومٍ وُسِموا بالإرهاب كهولا وشبابا وأطفالا وأجنّةً. لا بريءَ بيننا. حتّى مَن سقطَ منّا ضحيّةَ الإرهابِ الْمحليّ هو مُدانٌ كجلاّده. الْقاتلُ والْقتيلُ سيّانِ حسْب الرّؤية الْغربيّة الرّسميّة والشّعبيّة.
ليستْ هذه المرّةَ الْأولى الّتي يستهدفُني فيها الْعداءُ الْغربيُّ مِن أجل "انتمائي الْعربيّ الإسلاميّ". بيد أنّها الْمرّةُ الّتي آلمتني أكثر من غيرها. جرح كبريائي ما فيها مِن صَفاقةٍ و قسوةٍ و شماتةٍ. أحسستُ أنّ بائعةَ الْعسل تثأر لنفسها مِنّي، مِن اجتياحِ "الْمُلثَّمين" لمحيطها الاجتماعيّ الشّفّاف، مِن الْقلق النّفسيّ الْجمْعيّ الّذي يسبّبُه هؤلاء الْغرباءُ الْمحمَّلون على زوارق الْموتِ المقتحمُون الْيابسةَ عُنوةً. ثمّ إنّ انقلابَها السّريع يؤكّد كمْ نجحَتْ "جماعاتُ الضّغط الصّهيونيّة" في الاستحواذ على الْإعلامِ الْغربيّ و كمْ فشلنا بالْمقابل في ردّ التُّهَم الْجاهزة أو في إيقاف الْمدّ الْعنصريّ الْمتصاعِد ضدّنا. هزمَنا الصّهاينةُ في عُقر دارنا، و نكّلوا بنا في ديار الْحلفاء. طاردونا حتّى في الشّتات الّذي ألقوْا بنا فيه. فالْخوفُ من انفضاحِ "الْأساطير الْمؤسِّسة لدولة «إسرائيل»" و الْحرصُ على تزوير تاريخ الشّرق الْأوسط لا يتركان شاردةً و لا واردة. الْكلُّ يعملُ مستثمِرا أطماعَ السّاسة مستغلاّ نقاطَ ضُعف الْمواطن الْبسيط الْباحثِ عن الْأمن بحثَه عن الخبز.
فوزيّة الشّـطّي
تونس: 2011.06.25
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق