رأيٌ في الزّمنِ المدرسيِّ:
تعديلُ الزّمن المدرسيّ مجرّدُ خُطوة في الاتّجاهِ الصّحيح
[نُشر في "الموقف": 2010.05.14، عدد: 546]
كثُرَ الحديثُ في وسائلِ الإعْلامِ المتنوِّعةِ عنِ الاسْتشارةِ الوطنيّةِ حول "الزّمن المدرسيّ". ولأنّه لَمْ يستشرنِي أحدٌ ولوْ على سبيلِ المَجازِ فقدْ قرَّرتُ أنْ أستشيرَ نفسِي على الحقيقةِ. وها أنا أفكِّرُ بصوتٍ عالٍ علَّ صوتِي يصِلُ بعضَ الأسْماعِ.
1- تقسيمُ العامِ الدّراسيّ:
أثبتَ نظامُ الثلاثيّاتِ فشلَه الذّريعَ بعد سنواتٍ مِن تطبيقِه: فقسمةُ العامِ الدِّراسيِّ قسمةً ثلاثيَّةً جَعلتِ المدرِّسَ والمتعلِّمَ يُسابقان الزّمنَ الضّيِّق الخانق خاصّةً مع الموادِّ الّتِي يُطلَبُ فيها إنجازُ فرضيْن عاديّيْن وفرضٌ تأليفيٌّ كُلَّ ثلاثيّةٍ. إذْ يكادُ المتعلِّمُ يُمتحَنُ بقدرِ ما يتلقَّى مِن دروسٍ. وهذا الضَّغطُ يجعلُ هاجِسَ الجزاءِ أطْغَى على العَمليّةِ التّربويّةِ مِن هاجسِ التّكوين. أيْ إنّه يقلِبُ الآيةَ قلبًا مُحرِِّفًا. فالجزاءُ بِلا تَكوينٍ مَتينٍ مُنتظِمٍ مُريحٍ هو كالْحَفرِ على الرُّخامِ بِقَشَّةِ تِبْنٍ.
لِذا أَقترحُ أن يعودَ نظامُ السُّداسيّتيْن وأن يُفصَلَ بينهما بعطلةٍ مِن أسبوعين تُمنعُ فيها الدُّروسُ الخصُوصيّةُ والإضافيّةُ مَنعًا باتًّا حتَّى تؤدِّيَ العطلةُ دورَها الحقيقيَّ: هو الرّاحةُ الذهنيّةُ وتجديدُ الطّاقةِ. وكيْ يكونَ هذا المنعُ منطقيّا يجبُ مراجعةُ تضخُّم البرامجِ بِما يُصيِّرها مُنسجمةً مع المدَى الزَّمنِيِّ المْحدَّدِ لها أصْلاً ومُتلائمةً مع التَّدنِّي الكارِثيِّ لِمستوَى تلاميذِنا. وفي منتصَفِ كلِّ سداسيّةٍ تتمتَّعُ المدرسةُ بعطلةٍ تدومُ أسبوعًا تكونُ فاصلةً بين فترتَيْ الفروضِ العاديّة والفروضِ التّأليفيّة إنجازًا وإصلاحًا.
أرجُو أن تُلغَى ما تُسمَّى الآن "عطلة منتصَف الثّلاثيّ" الّتِي تدومُ أربعةَ أيَّام [بحسابِ يوم الأحد] لأنّها تُوقِعُنا في التّفاوُتِ المخِلِّ وغيرِ العادلِ بين الأقسامِ وبين الموادِّ. إذْ تُحرَمُ الأقسامُ الّتِي تَدرُس في النّصفِ الثّانِي من الأسبوعِ مِن دُروسٍ تلقَّتْها أقسامٌ أخرَى في الأيّامِ الثّلاثةِ الأولى مِنَ الأسبوعِ نفسِه. وهذا يُسبِّبُ عدمَ التّوازُنِ بين الأقسامِ الّتِي مِن نفسِ المستوَى ويُربِكُ الفُروضَ التأليفيّةَ الموحَّدةَ . ثُمّ إنَّها عُطلٌ غيرُ مُجديةٍ وغيرُ مُريحةٍ.
2- أيّامُ الأسبوعِ الدّراسيِّ:
حانَ الوقتُ للأخذِ بِنظامِ الأيّامِ الخمسةِ. فالرّاحةُ الأسبوعيّةُ الحاليّةُ قصيرةٌ جدًّا لا تَفِي بالغرضِ منها. إذْ تَتنازعُها ملاعبُ كرةِ القدمِ والحمّاماتُ العامّةُ والشّؤونُ المنْزليّةُ وما شابَهَ. وقد اُقترِحَ في وسائلِ الإعلامِ يومان: الأَربعاءُ لأنّهُ يَقعُ في مُنتصَفِ الأسبوعِ الدّراسيِّ والسّبتُ لأنّهُ يسمحُ بعطلةِ نِهايةِ أسبوعٍ أطولَ. وأرَى أنَّ الأخذَ بالاقتراحيْن معًا هو أفضلُ الحلولِ. يُمكنُ إذنْ تَوزيعُ يوميْ الرّاحةِ الإضافيّةِ توزيعًا دوريًّا على المؤسّساتِ التّربويّةِ حسْبَ موقعِها الجغرافِيِّ. أيْ إذا كانتِ المؤسّستان [أ] و [ب] مُتجاورتيْن جغرافيًّا يَحسُنُ أنْ تَنالَ كلٌّ منهما يومَ راحةٍ مُختلفٍ تَتداوَلانِ عليهِ: فالمؤسّسةُ الّتِي حظِيتْ بِالسّبتِ هذا العامَ يكونُ الأربعاءُ نصِيبَها العامَ المقبِلَ. وهكذا دواليك. عسَى أنْ يُساهمَ ذلك في تَخفيفِ اكتظاظِ وسائلِ النّقلِ العموميّة ولو يوميْن مِنَ الأسبوعِ. وليسَ هذا بِالقليلِ. وضمانًا لِلعدلِ بين كلِّ المؤسَّساتِ التّربويّة يَجوزُ اعتمادُ رزنامةٍ تضبِطُها الإداراتُ الجهويّةُ للتّعليمِِ. وأعتقدُ أنّ هذا الخيارَ سيُسهِمُ في تنويعِ الزّمنِ المدرسيِّ الرّتيبِ رغمَ ما سيُحدِثُه في البدايةِ مِن اضطرابٍ وقتِيٍّ.
يَنبغِي أنْ يُخصِّصَ يومُ الرّاحةِ الإضافِيَّ للنّشاطِ الثّقافِيِّ والرّياضيِّ داخلَ المؤسّساتِ التّربويّة. عَلَّنا بذلك نَجعلُ تلاميذَنا يُقبِلون بِحُبٍّ وحماسٍ على الحرمِ المدرسيِّ ولَوْ يومًا واحدًا مِن كلِّ أسبوعٍ. فمَن يدرِي؟! قد تنتشرُ عدوَى الحماسةِ بينهم وتصيرُ المدرسةُ مَلاذا يَعوذُون بِها مِن عُقْمِ محيطِهم العائليِّ والاجتماعيِّ حتّى في باقِي الأيّامِ الدّراسيّةِ. لا حاجةَ إلى التّذكير بِما سيتطلَّبُه هذا النّشاطُ مِن حرِّيةٍ مَسؤُولةٍ وإطارٍ مُختصٍّ وأدواتِ عملٍ.
سيكونُ مِن المخْجِلِ في العَشريّةِ المقبلةِ أنْ تَخْلوَ مؤسّساتُنا التّربويّةُ مِن كُتبِ المطالعة، مِن إصدارٍ إبداعيٍّ تلمَذيٍّ، مِن نوادِي المسرحِ المدرسيِّ، مِن تقنياتِ العرضِ السّينمائيِّ... ولْيعلَمْ مَن يُنظِّرُ لاسْتنسَاخِ النّموذجِ التّعليميِّ الغربِيِّ أنَّ المدارسَ الابتدائيّةَ هناك تُصدرُ مجلاّتِها الخاصّةَ في طبعاتٍ أنيقةٍ جدّا. بَلْهَ المدارسَ الإعداديّةَ والثّانويّةَ.
3- توزيعُ الحصصِ الدّراسيّةِ:
يَصعُب في الوقتِ الحالِيِّ اتّباعُ نظامِ الحصّةِ الواحدةِ على الصّعيدِ الوطنِيِّ. لكنَّ تخفيفَ اليومِ الدّراسيِّ ضرورةٌ مُلحَّةٌ. فالتّلميذُ الّذي يُنهِي يومَه السّادسةَ مساءً لِيستأنفَ غدَهُ الثّامنةَ صباحًا هو كالْمَحْكومِ عليه بحمْلِ صخرةِ "سيزيف" إلى قمّة جبلٍ كلّما بلغَها تدحْرجتْ به إلى السّفحِ البعيدِ الغَورِ. أرَى بناءً على تجربتِي المتواضعةِ أنْ يَنتهيَ اليومُ الدّراسيُّ عندَ الخامسةِ مساءً كحدٍّ أقصَى. ويُمكن أن تُمنحَ المؤسّسةُ التّربويّةُ حقَّ تقديمِ هذا التّوقيتِ إذا سَمحتْ بذلك ظروفُها الدّاخليّةُ والاجتماعيّةُ والمناخيّةُ. فكثيرةٌ هي المدارسُ الرّيفيّةُ الّتِي تَستطيعُ الاكتفاءَ بِنظامِ الحصّةِ الواحدةِ أو ما يُشابِهُه لِقلّةِ تلاميذِها وتَباعُدِ منازلِهم وقسْوةِ المناخِ قَرًّا أو حَرًّا.
يَجبُ منعُ إداراةِ المؤسّساتِ التّربويّةِ الإعداديّةِ والثّانويّة مِن إدْراجِ حصصِ السّاعتيْن المُسترسِلتيْن منعًا قانونيًّا حازمًا إلاَّ عند الضّرورةِ القُصوَى [إنجاز الفروضِ الّتِي تَدومُ ساعتيْن مثلاً]. إذْ لا تَكفِي دعوةُ الإدارةِ بكلِّ لُطفٍ إلى تجنُّب ذلك الخلَلِ البيداغُوجيِّ ما أمكنَها. فغَالبا مَا تُدرَجُ هذه الحِصصُ بشكْلٍ اعْتباطيٍّ أو كَيْدِيٍّ يُهوِّنُ العملَ علَى مُعِدِّ جَداولِ الأوقاتِ أيّامًا قلِيلةً ويُعسِّرُه على التِّلميذِ والأستاذِ أشهرًا مرِيرةً. أمّا إذا كانتْ هذه الحِصصُ مَسائيّةً فإنّها تَصيرُ عذابًا حقِيقيًّا، يأتِيها التّلميذُ مُتثاقِلاً مُتثائبًا في أحسنِ الأحوالِ وثائرًا مُحتجًّا مُستعِدًّا للنِّزاعِ في أسوئِها. وكثيرًا ما يبحثُ عنْ الخَلاصِ مِنها دافِعا الأستاذَ إلى إرَاحةِ الدَّرسِ مِن شرِّهِ دَفْعَ العامِدِ المتقصِّدِ.
نُضيفُ إلى ذلك أنَّ خروجَ التّلاميذِ في منتصَفِ حصّةٍ مِن ساعتيْن مُسترسِلتيْن أمرٌ مَمنوعٌ قانونا حسْبَ ما تدّعِي الإدارةُ. إنْ صَدَقَ ادِّعاءُها فالقانونُ غالِطٌ إنسانيًّا وعلميًّا وتربويًّا لأنّه لا يُراعِي مدَى قدرةِ المتعلِّمِ النّشْءِ على التّركيزِ. وهي فيمَا أعلمُ لا تتجاوزُ خمسًا وأربعينَ دقيقةً عندَ التّلميذِ العاديِّ. وأغلبُ تلاميذِنا، و لله الحمدُ، دونَ المستوَى العاديِّ بكثيرٍ. فما أساسُ شرعيّةِ هذا القانونِ؟
وإنْ كان ادِّعاءُ الإدارةِ باطِلاً فقدِ ابتدَعتْهُ لِسببيْن على الأقلِّ. أوّلاً: كيْ تُعفيَ بعضَ أعوانِها ومُوظَّفِيها مِنْ مجهودٍ مهنِيٍّ إضافِيٍّ، وعلى المدرِّسِ أنْ يُراقبَ تلاميذَه أثناءَ استراحةٍ وهْميَّةٍ داخلَ قاعةِ الدّرسِ. ثانيًا: كيْ يُمارسَ بعضُ المسؤولِين الإداريِّين سياسةَ الكَيلِ بِمكياليْن، إذْ يسمحُونَ بِخُروجِ التّلاميذِ مَا بيْن السّاعتيْن إذا كانَ مُدرِّسُهم "مَرْضِيًّا عنه" يرُدُّ الْمَزِيَّةَ أضعافًا مُضاعَفةً. وبِالْمُقابلِ يُحرَمُ تلاميذُ المدرِّسِين "المغضوبِ عليهم" مِن تلك الاستراحةِ الضّروريّةِ مَنعًا عنيِفًا. هذا الْحَيفُ رافدٌ مِن روافدِ العُنفِ التّلمذيِّ الّذي يُعطِّلُ العمليّةَ التّربويّةَ ويُشوِّهُ مقاصِدَها. إنَّ النّصَّ القانونِيَّ الحازمَ هو الكفِيلُ بِردِّ الأمورِ إلى نِصابِها خاصَّةً وأنَّ مطلبًا كَهذا يَتوافقُ مع منظومةِ حُقوقِ الطِّفلِ الّتِي تَتبنَّاها بلادُنا. لِيَكُنِ الحقُّ في المدَى الزَّمنِيِّ المعقولِ لِحصَّةِ الدَّرسِ بِمنْزلةِ الحقِّ في الدّرسِ نفسِهِ.
تعديلُ الزّمنِ المدرسيِّ هو رُكنٌ رئِيسٌ في مشروعِ الإصلاح ِالتّربويِّ. لكنّه مجرّدُ خُطوةٍ في الاتّجاهِ الصّحيحِ يجبُ أنْ تَتلوَها خُطواتٌ عِدّةٌ تُرهِفُ السّمعَ لِنواقيسِ الخطرِ الّتِي تَدقُّها المؤسّساتُ التّربويّةُ التّونسيّةُ شَمالاً وجنوبًا شرقًا وغربًا.
فوزيّة الشّـطّي
تونـس: 2010.04.24
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق