الغولُ المثلَّثُ الأضلاعِ
ليس في «الدّستور الصّغير» الّذي يُعدّه الثّالوث [النّهضة، المؤتمر، التّكتّل] ما يؤكّد أنّه لمدّة عام. الهيمنةُ "النّهضويّة" عليه والتّواطؤُ "المؤتمريّ" و"التّكتّليّ" فيه قد يجعلانه ساريَ المفعول إلى حين قيامِ ثورة أشدّ بأسا تُعيد ترتيبَ الأوراق من جديد. أمّا «الجمهوريّة الثّانية» الّتي تكابد مخاضا عسيرا فالمرجّحُ أن تُولد إثره مَسْخا آخر لمنظومة الفساد والاستبداد الّتي مازالت دواليبُها الصّلبة المتماسكة تستعصي على الفضحِ والتّفكيكِ والإدانة.
الآن صار نوّابُ "التّحالف الانتهازيّ" حريصِين على وقت المواطنين المعذَّبين بالانتظار! فلِم أهدروا الوقتَ الأطولَ في اقتسام غنائم الثّورة ثُلاثـيّا دون أن يخِزهم ضميرٌ أو إحساسٌ بالواجب؟ الآن ضاقُوا ذرْعا بالأقلّـيّة المعارِضة! ألَم يُدمِنوا ارتكابَ دور الضّحيّة المكتوِية بسنوات الجمر؟ الآن يرفعون في وجه الخصوم فزّاعةَ الاقتصاد والاستقرار! أليسُوا يسيرون على منوال العدوِّ – النّموذجِ الّذي جنى أمْنا عميما بفضلِ "فزّاعة الإسلاميّين"؟
«السّلطانُ» الّذي لن تُعصى أوامرُه ولن تُعطّل نواهِيه لا يفضُل في شيءٍ «الوصيفَ الأوّل» المنتشِيَ بمنزلة الظّلّ ولا حتّى «الوصيفَ الثّاني» المزْهوَّ بالفُتاتِ. هذا الغولُ المثلّثُ الأضلاعِ ليس أكثرَ أو أقلَّ من ماكينةِ تصويتٍ تُعيد إنتاجَ الاستبداد الّذي جُعِل «المجلسُ الوطنيّ التّأسيسيّ» أداةً تُشرّعه: أي تُضفي عليه الشّرعيّةَ القانونيّةَ والشّعبيّةَ معا. أمّا التّعالي الهازئُ المرتسمُ على وجوه نوّاب "النّهضة" عند كلّ معارَضة شرِسة فهو البيِّنةُ على أنّ المطبخَ السّياسيّ قد أعَدّ كلّ الوجبات دفعةً واحدة دون تطهيرِ الأواني العتيقة ولا تجديدِ الطّاقَم الخَدُوم. لكنِ ارْتأى أن يُقدِّمَها للطّاعِمين قطرةً قطرة خوفا عليهم من الإسهال أو التّخمة أو عُسر الهضم.
كلّما فُضِحتْ بعضُ فصول "المؤامرة الانقلابيّة" هبّ الفصحاءُ يَتبجّحون بأغلبيّتهم ويُعيّرون المعارضةَ بأقلّـيّتها. بل إنّهم لَم يتردّدوا في لعِب دور الضّحيّةِ مرّةً أخرى، الضّحيّةِ الّتي تلتهِم الأخضرَ واليابسَ من القوانين المنظِّمة للسّلطات العموميّة التهامَ الجرادِ للصّابةِ الواعدةِ: النّوّابُ التّسعةُ والثّمانون إمّا أن يُصوِّتوا معا أو يمتنعوا معا. لَمْ يحدثْ، حسْب علمي، أنْ خرج أحدُهم عن "رعيّةِ القطيع". اِعتصَمُوا بحبل الحزب الشّمولِيّ جميعا، فلمْ يتفرّقوا في الحقِّ كما في الباطل. هم مفردٌ في صيغة الجمعِ السّالم من آثامِ الاختلاف وخطايا الدّيموقراطيّة. حتّى إنّ مشهدَ أيديهم المحلِّقةِ في فضاء «المجلس» صار أكثرَ تسلِيةً للمشاهِدين مِن مسرحِ «الدُّمى المتحرّكة» أو أدبِ «المضحِكات المبكِيات».
لِيخجلْ سكارَى النّصر المبِين هؤلاء من وهمٍ اشتروْه بالمال السّياسيّ وبالدّين المسيَّسِ. نوّابُ "النّهضة" لا يُمثِّلون إحصائيّا إلاّ حوالَيْ مليون و نصف من مجموعِ النّاخبين [هم تقريبا 8 ملايين] أي حوالَيْ 19,8% منهم، بينما يُمثِّل "المؤتمر" نسبةَ 4,5% و"التّكتّل" نسبةَ 3,2% . أيْ همْ مجتمِعين لا يُمثّلون الأغلبيّةَ الباقيةَ: وهي 72,5% من النّاخبين الفعليّين، فكيف بمجموعِ التّونسيّين [هم تقريبا 11 مليونا]؟. إذنْ أيّ أغلبيّةٍ يدّعُون؟! و أيّ غرورٍ يلبسون؟! وبأيِّ شرعيّةٍ انتخابيّة يتعلّلون؟! كأنْ لا وُجودَ ولا وطنَ ولا دستورَ لِمَن لَم يُصوّتْ لهم. فلو أعدنا الأمورَ إلى نصابها لَصاروا همُ الأقلّـيّةَ المستبِدّةَ تماما كَـ «السّلفيّين» الّذين، رغم أقلّـيّتِهم، حَرمُوا الأغلبيّةَ حقَّ التّعلُّمِ وحقَّ إجراء الامتحانات في «كلّـيّة الآداب والفنون والإنسانيّات» بمنّوبة. سياسةُ لَيِّ الذّراع أو كسرِ العظم أو سحبِ البساط من تحت أقدام "الآخر" [الضّديدِ سياسيّا واجتماعيّا وفكريّا] هي نفسُها في «المجلس» كما على الميدان الحيِّ. هؤلاء الأشبالُ مُنقَّباتٍ ومُلتحِين من أولئك الأسودِ الّذين "فيهم الخصامُ وهمُ الخصمُ والحكَمُ": يحكُمون [رئيسَ حكومة ووزراءَ] كيفما أرادوا، ويشرِّعون [نوّابا] لِما شاؤُوا. جمعُوا في قبضتهم السّلطتيْن التّشريعيّةَ والتّنفيذيّةَ، وهو ما لا يجوزُ عمَليّا وسياسيّا في دولةٍ تخطُو خُطاها الدّيموقراطيّةَ الأولى بتثاقل، بل تكادُ تَحبُو. وهاهُم يتربّصون بالسّلطتيْن الماليّةِ [البنك المركزيّ] والقضائيّةِ الّتي مازالتْ تُحاسِب ولا تُحاسَب والّتي بها سيُعطَّل مبدأُ محاسبةِ أعضاء الحكومة المنتظَرة. أمّا سلطةُ الإعلام فلسنا ندري متى تقع في الشَّرَك راقصةً رقصةَ الدّيك الذّبيحِ.
كيف لِمجلسٍ هذه صفاتُه أن يُعِدَّ دستورا يُمأسِسُ الدّيموقراطيّةَ بعد نصف قرنٍ من ديكتاتوريّة "أنصاف الآلهة"؟! كيف لنوّابِ الثّالوث المتغوِّل أن يتوبُوا ليصيروا نوّابَ الشّعب؟! كيف لنا الإفلاتُ الآمنُ من سياطِ الإحباط الجمْعيّ السّارِي فينا كالوباءِ؟! في انتظارِ المعجزة أعزِّي شعْبِي الثّائرَ في تضحياتِه المهدورة، في آمالِه المقبورة، في ثورتِه المغدورة...
فوزيّـة الشّـطّي
تونس: 2011.12.10
هناك تعليق واحد:
وثبت أنّ الحزبَ الحاكم غول حقيقيّ جعل آلافَ المواطنين يتحسّرون جهارا نهارا على "العهد الجديد" و"التّحوّل المبارك" و"الانقلاب الأبيض".
إرسال تعليق