L كشْطا لِصدأ
الذّاكِرة: صدّام
حسين L
[نُشِر: جريدة الشّعبُ، عدد: 952، بتاريخ: 12 جانفي 2008]
لن نُضيف جديدا
إذا قُلنا إنّ المحكمةَ الّتي أُوكِلتْ إليها مهمّةُ محاكمةِ الرّئيس العراقيّ
السّابق السّيّد 'صدّام حسين' تفتقر إلى أدنَى شروطِ الشّرعيّة القانونيّة.
وأوّلُ هذه الشّروطِ استقلالُ القضاءِ. فهذا شرطٌ مؤَجَّل إلى حين استقلالِ
الدّولة العراقيّة نفسِها. وإنْ كان الاستقلالُ السّياسيّ شرطا لازما فهو في
مطلقِ الأحوال غيرُ كافٍ. ولذا فالأحكامُ الّتي تُصدرها هذه المحكمةُ، أيّا كان
تراكُمُ الأدلّة والشّهادات الواقعيّة أو المفتَعَلة، تظلُّ موضِعَ شكٍّ وارتياب
لدى نسبةٍ هامّة مِن العرب وغير العرب بقطعِ النّظر عن مواقفهم الأخلاقيّة وعن
انتماءاتهم المذهبيّة والسّياسيّة.
لِـمَ اُختِير
الإعدامُ إذن؟ ولِـمَ نُفِّذ
في تلك الأجواءِ السّاخنة الـمُحتقِنة المستمرَّة والحالُ أنّ هذا الحكمَ جاهِزٌ
قبل تشكيل المحكمةِ نفسِها؟
تحتاجُ قوّاتُ
الاحتلال الأمريكيّ أكثرَ مِن أيِّ وقتٍ مضَى إلى «ظلِّ انتصارٍ» تُلهِي به الرّأيَ العامّ المحلّيّ والعالميّ.
فالإطاحةُ بِـ «الطّاغية» ومحوُ آثارِ عهده، حسب هذا التّمشِّي، لَم
تذهبْ سُدًى. إنّما الإعدامُ مَغرِسُ شجرةِ الدّيموقراطيّة الّتي عليها أن
تُورِقَ وإنْ تكنْ في غير تُربتِها وغيرِ مُناخِها. ومِن شأنِ هذا الإعدام الّذي
فيه مِن التّشفِّي أضعافَ ما فيه مِن العدالة، أن يُسدِل ستارا، ولو شفّافا، على
الضّريبة المفزِعة مِن الأرواح الّتي دفعها الغزاةُ والّتي دفَّعوها شعبَ
العراقِ. ومِن شأن هذا الحكم أيضا، باعتباره لقطةً إشهاريّة ترهيبيّة، أن
يُروِّج أحسنَ ترويجٍ الرّسالةَ التّالية: «اُنظُروا يا ساسةَ العالمِ الثّالثِ ما يَـجنِيه
أعداءُ الإمبراطوريّةِ الأمريكيّةِ العُظمَى، إذْ لا مَفرَّ للرّؤوسِ الّتي أيْنعتْ
مِن أنْ تُقطَفَ (1)، والعَاقلُ مَن اتّعظَ بِغَيرِه».
هذا الحكمُ،
إصدارا وتنفيذا، صورةٌ حيّة ثلاثيّةُ الأبعادِ لمشهدِ إسقاطِ تمثال الرّئيس
السّابق عشيّةَ اجتياح بغداد. فكِلا المشهديْن مسرحيٌّ: إخراجُه أمريكيّ، وتمثيلُه
عراقيّ، وإنتاجُه مشترَك. ولأنّ المشهديْن مِن مسرحِ الدّمَى المتحرّكة لَـمْ
نجدْ رُوحا في الأداء عهِدناها راسخةً في بلاد الرّافديْن ولَـمْ نرَ عبقريّة في
الإخراجِ كما قد عوَّدنا نجومُ هوليود (2).
بعد مسلسلِ
تنحيةِ القُضاة لتنصيب غيرهم، وبعد تصفيةِ بعضِ محامِي الدّفاع التّصفيةَ الجسديّة البشعة، وبعد إهانةِ المتّهَمين حتّى الطّردِ مِن قاعةِ المحكمة، وبعد
تأجيلِ التّصريح بالحكم في سذاجةِ الجلاّد الحريص على العدل... بعد هذا وغيره
يصدُر حكمُ الإعدامِ شنقا صدورا رسميّا. ولمزيد التّشفِّي حُرِم الرّئيسُ
الرّاحل مِن رغبة الموت رميا بالرّصاص. قلَّ مَن فُوجئ بهذا الحكم لأنّه مِن جنس
القرارات المعلَّبة.
إنّ الغزوَ
الأمريكيّ للعراق وما انْجرَّ عنه مِن تنكيلٍ بزعيمِ حزب 'البعث' الحاكم ومِن محاكمةٍ صُوريّة هزليّة له ومِن إعدامٍ مُهِين لشخصه وللذّات البشريّة
عموما (3)، إنّ هذا الغزوَ قد أنقذَ الرّئيسَ الرّاحل مِن مصيرٍ أشنعَ وأقتمَ كان
سيلقاه على الأرجح مِن الدّاخل العراقيّ. لقد صيَّره الاحتلالُ الأمريكيّ مِن
حيث لا يدري ولا يُريد «بطلا» وطنيّا وقوميّا عند نسبةٍ هامّة مِن العرب
داخلَ العراق وخارجَه. والشّاهِدُ على ما نقول هو الأسَى العامُّ في ذلك «العيدِ الْمُرِّ» [عيدِ الأضحى الّذي تزامنَ مع تنفيذ الإعدام].
سيحفظُ التّاريخُ
للرّاحلِ 'صدّام حسين'، شِئنا أم أبيْنا، أنّه لَـمْ يُسلِّمْ مفاتيحَ
بغداد للمغُول الجدُد وأنّه صارع حتّى الرّمقِ الأخير وأنّه ظلَّ وهو يُواجِه
تهمةَ الإبادةِ الجماعيّة للأكراد وغيرَها مِن التّهم أفصحَ مِن قُضاتِه وأبلغَ
مِن مُحاميه وأجرأَ مِن أعدائه السّافرين والملثَّمِين حتّى وهو مغلولُ اليدِ واللّسان.
أثناءَ مسلسلِ
المحاكمةِ الّذي عُرِضتْ بعضُ لقطاته المنتقاة على الرّأيِ العامّ لَـمْ
نُشاهِدْ طاغيةً أو سفّاحا ولا حتّى مُصابا بجنون العَظمَة [وما أكثرَهم في
عالمنا الموسوم بِـ 'الثّالث']. لقد أدّتِ المحاكمةُ
إلى نقيضِ ما جُعِلت له لأنّها انتهتْ إلى وضْعِ القُضاة ومُسيِّريهم في قفص
الاتّهام الّذي مِنه خرج المتّهَمُ الرّئيسُ «مُكلَّلا بتاجِ الشّهادة».
هذا الإعدامُ
مُوجَّه بالأساس ضدَّ أنصارِ الرّئيس الرّاحل في السّرّ والعَلَن، ضدَّ أمْنٍ
عراقيّ ما يزال في حيّزِ الإمكان أو حيّز الآمال، ضدَّ أيِّ توافُقٍ نفسيّ وسياسيّ
بين السّنّة والبعثيّين من جهة وبين الشّيعة والأكراد مِن جهة ثانية خاصّةً بعد
أنْ هلّل هؤلاء لسقوط «الطّاغية» تِمثالا وإنسانا ولإعدامِه حُكما وتنفيذا.
إذا كانتْ
غايةُ الغُزاة مِن إعدام السّيّد 'صدّام حسين' هي «فرِّقْ تَسُدْ»، فقد فرّقُوا الشّتاتَ العراقيّ مذْ وطَنُوا بلادَ
الرّافديْن، ولكنْ لَـمْ يسودُوا. وإن كانتِ الغايةُ هي تصفيةُ النّزاعات
الإقليميّة على الأرض العراقيّة، فإنّ تنفيذَ هذا الحكمِ المتهوِّر [بالمعنى
السّياسيّ للتّهوُّر] سيزيد النّزاعَ اشتِعالا بما يجعلُ أرضَ
العراق مجرّدَ بؤرةٍ للحريق وبما يجعل الغُزاةَ – مُشعِلِي
الفتنة يصطلون بدخانِها إنْ لَم نقلْ بلهِيبها.
ليس ذاك
الإعدامُ الّذي عَدِمَ العدالةَ القانونيّة والسّياسيّة والأخلاقيّة إلاّ إسقاطا
ثانيا للتّمثالِ... لكنْ الحيِّ هذه المرّةَ.
الهوامش:
(1)
هذا تحريفٌ لعبارة 'الحجّاج بن يوسف'
[660م-714م]: «أَرَى رُؤُوسًا قَدْ أَيْنَعَتْ وَحَانَ قِطَافُهَا». وَلِـيَ الحجّاجُ العراقَ في عهد الخليفةِ
الأمويّ الخامس 'عبد الملك بن مروان'. والعبارةُ مِن خطبةٍ له في أهل العراق.
(2) لا نقصدُ مِن
هذه المشابهة أيَّ استنقاص مِن قيمة مسرح الدّمَى المتحرّكة. فله ولأهله كلُّ التّقدير
والاعتذار.
(3) تقولُ أرجحُ
الرّوايات وأقربُها إلى خفايا الكواليس أنّ الغزاةَ هم مَن صوّروا مشهدَ الإعدام
وروّجوه وركّبوا عليه أصواتَ الشّامتين.
L فوزيّـة
الشّـطّي L
تونس: 2007.12.31
|
إجمالي مرات مشاهدة الصفحة
2011-12-19
مقال: كشْطا لِصَدأ الذّاكرة، صدّام حسين.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليق واحد:
حسبُ الرّئيس الرّاحل صدّام حسين شرفا أنّه لم يسلّمْ مفاتيح بغداد للمغول المعاصرين.
إرسال تعليق