أسامة بن لادن: أهُو حتميّةٌ سياسيّة؟
نُشِر في جريدة: 'الشّعب'، الملحق
الثّقافيّ: 'مناراتٌ'، 2007.10.27، تونس
نُقرّ أوّلا بأنّنا نستعمل هذا العَلَم [أسامة بن لادن] باعتباره رمزا عامّا للتّيّار الدّينيّ الّذي نُعت بكونه متشدِّدا أو متطرّفا. ونُقرّ ثانيا بالمجازفة الّتي تحتويها لغةُ العنوان. فنحن نستعمل لفظةَ 'الحتميّة' تجوُّزا لغاية تقريب المعنى. إذ يتعذّر على أيّ شخص كائنا من كان، أن يكون حتميّا بالمعنى الفلسفيّ الدّقيق للكلمة[1]. ونُقرّ ثالثا بأنّ العنوانَ سؤال افتراضيّ لا ندّعي القدرةَ على الإجابة عنه. فحسبُنا أن نوسِّع مجالَه الاستفهاميّ وأن نفترض له بعضَ الرّدود.
يتطلّب القولُ، على سبيل الاستفهام، بأنّ السّـيّدَ 'أسامة بن لادن' حتميّةٌ سياسيّة البحثَ في دوافع نشأة هذه الحتميّة الافتراضيّة. وقد قسّمنا الدّوافعَ قسميْن: داخليّة وخارجيّة.
أسامة بن لادن طفلا.
1- الدّوافع الدّاخليّة:
ما الّذي يُحتِّم نشأةَ «الظّاهرة اللاّدِنيّة» في الدّاخل العربيّ – الإسلاميّ؟
إنّ المأزقَ الّذي وصلتْ إليه الإيديولوجيّاتُ اليساريّة والقوميّة في البلاد العربيّة – الإسلاميّة قد ترك السّاحةَ السّياسيّة مطلقةَ الرّحابة تقريبا أمام الفكر القائم على أساس دينيّ. فالإيديولوجيّاتُ المنسحِبة طوعا أو المرغَمة على الانسحاب قسْرا، قد تراجعتْ عن خطّ الدّفاع الأوّل. واكتفتْ بالمراقبة أحيانا وبالاحتجاج الرّمزيّ أخرى وبترقّب الفرص السّانحة للعودة إلى واجهة الأحداث مرّات. واضطُرّتْ مرّات أخرى إلى أن تُراجع أسُسَها المبدئيّة والعمَليّة سعيا إلى ضمان الحدّ الأدنى من شروط البقاء. بل إنّ بعضَ أنصار تلك الإيديولوجيّات قد اختار الحلَّ البراغماتِيّ الأنسب. فراهن على الفرس السّبّاق [وهو هنا التّيّار الدّينِيّ] في حلبةٍ انكفأتْ فيها بقيّةُ الخيول على وجوهها متمرّغةً في الأوحال.
ولأنّ الوضعَ العربيّ – الإسلاميّ مأزومٌ ومسيَّج بكلّ عوامل الانحطاط لَم نكنْ ننتظر من الفكر الدّينِيّ، وهو يكتسح السّاحةَ الخاوية، أن يخرج علينا بمعتزلة جدُد ولا حتّى بأشاعرةٍ معاصرين. كان من المتوقَّع أن يعلوَ صوتُ الشّقّ المتطرّف من هذا الفكر 'البديل' [أي الّذي قدّم نفسَه باعتباره بديلا]. وأهمُّ الأدلّة على التّطرّف هو إقصاء الآخر. و'الآخر' لفظٌ واسع الدّلالة: فهو يعني غيرَ المؤمن و المؤمنَ كما يعني غيرَ المسلم والمسلمَ أيضا سواء أكان مسلما بالاعتقاد والممارسة أو مسلما بمجرّد الانتماء الحضاريّ.
إنّ الآخرَ المقصَى كافرٌ بالضّرورة. و'الكفر' هو أيضا مصطلحٌ مرِنٌ تتّسع دلالتُه كلّما اتّسعتْ مصالـحُ المفتي المرتزق وتضيق كلّما ضاقت آفاقُ فكره أو ضاق مجالُه الحيويّ. ولإقصاء 'الآخر – الكافر' مظاهرُ عدّة، أخطرها الذّبحُ على الهويّة الطّائفيّة[2] والتّكفيرُ المتبادَل بين المذاهب المتناحرة على أساس الفتاوَى المعلَنة والمصالح المسكوت عنـها.
وفي خضمّ هذه 'الفوضى الخلاّقة' من الفتاوى المهُولة كمّا والمفجِعة نوعا [ربّما لَم يُوجد لهذه الفتاوى نظيرٌ حتّى في أقسى عصور انحطاط الدّولة العربيّة – الإسلاميّة] بدا هذا التّيّارُ الدّينِيّ العائد إلى السّاحة السّياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة بقوّة طاغية مُجلجِلة، كأنّما هو انتحارٌ جماعيّ للعقل العربيّ – الإسلاميّ وإعلان غيرُ رسميّ لهذا المشروع: «نحن لا نُفكّر، إنّما نُعدِم كلَّ من يجرؤُ على أن يُفكّرَ».
للتّيّار الدّينِيّ قدرةٌ مدهشة على استقطاب القواعد الجماهيريّة وعلى مُراوغة الخصوم والمنافسين. فكثيرا ما ينفي صلتَه بالسّياسة باعتبارها آلةَ نفوذ. إنّ السّياسةَ، حسب ادّعاءات زعمائه، مجرّدُ وسيلة دنيويّة غايتُها استعادةُ التّاريخ الإسلاميّ المجيد الّذي خرّبه تحالفُ عدوّيْن: أوّلهما داخليّ يتوزّع بين استفحال الكفر الجماعيّ في البلاد العربيّة – الإسلاميّة وبين عَمالةِ الأنظمة السّياسيّة المحلّـيّة للغرب، وثانيهما خارجيّ يتمثّل في الأطماع التّاريخيّة للاستعماريّين 'الصّليبيّين' القدامَى والجدد.
تجد هذه الادّعاءاتُ صدًى طيّبا في نفوس شعوبنا الّتي تكابدُ سياسةَ التّجهيل القسْريّ والّتي يُنكِّل بها حكّامُها بوعيٍ مدروس أو بجهلٍ جهُول. إنّ معاناةَ القهرِ في الدّاخل والمهانةِ في الخارج [الغربيّ بالأساس] تدفع 'المواطنَ' [نستعمل الكلمةَ بالمعنى اللّغويّ فحسبُ، لأنّ معناها الاصطلاحيّ منظورٌ لَم يتحقّق بعدُ على أرض واقعنا] العربيّ – الإسلاميّ إلى أن يتحصّنَ بمن قدّم نفسَه حامِيَ الحِمى والدّين ومُسترِدَّ الحقوق المستباحة ومحرِّرَ الأرض المغتصَبة والفاتكَ بالسّاسة الطّغاة، وإلى أن يتمسّحَ بأذيال ثوب هذا 'الرّاعي الصّالح' عسى أن يُحييَ الأحلام الجماعيّة الدّفينة منذ عقود.
أمّا خطابُ الزّعيم الدّينِيّ فهو منسجم مع المتلقّي مُراعٍ لحاجاته النّفسيّة ولطاقاته الذّهنيّة. وفيه يتجاهلُ الخطيبُ الدّينِيّ – السّياسيّ الجدلَ العقلانيّ ما أمكن، ويُضخِّم الإنجازات البسيطةَ والوقائعَ الهيّنة ويلمِّع المشاهدَ الإرهابيّة البشعة. ولا ينسى أن يُوشِّيَ خطابَه بنصوص دينيّة عزلها من سياقها كي يُقوِّلها ما لم تقلْ. وكلّما تضخّم الخطابُ تنامى إحساسُ الجماهير العريضة بالأمان. والإحساسُ بالأمان يجعلها تُسْلِم أمرَها إلى الزّعيم 'المنقذ من الضّلال'[3]. فيبدو حالُ الجماهير مع الزّعيم كحال المرِيد مع الشّيخ عند المتصوِّفة: إنّ الطّاعةَ العمياء هي المكوِّنُ الرّئيس للعلاقة بين الطّرفين. فليس للجماهير أن تنقُدَ ما تسمع وما ترى. إنّما عليها أن تُهلِّل وتكبِّر وتهتف بحياة 'أميرها' وقد تُجهِش بالبكاء في حضرته!
بناءً على هذا نفترض أنّه لو لَم يصعدْ نجمُ السّيّد 'أسامة بن لادن' الكائنِ الفرد ذي الهويّة الشّخصيّة المعروفة لَصعدَ نجمٌ آخر يؤدّي الدّورَ نفسَه وإنْ بهويّة شخصيّة مختلفة. فالظّرفُ التّاريخيّ المحليّ مدفوعٌ إلى إنشاء هذه الظّاهرة اللاّدنيّة [أي الزّعامة الدّينِيّة المتطرِّفة] لِسدِّ الفراغ المهيمن على مستوى النّخب الفكريّة والسّياسيّة وعلى مستوى القواعد الجماهيريّة سواءٌ بسواءٍ.
إنّ شعوبنا مستعِدّةٌ إلى تقبّل هذه الظّاهرة في حالة وجودها جاهزةً مُعدَّة للاستهلاك استعدادَها إلى صنعها وإعادة إنتاجها في حالة عدم وجودها. بل قد يتّسعُ هذا الاستعدادُ، الّذي هو نفسيّ بالأساس قبل أن يكون فكريّا، إلى الرّغبة العارمة في تصدير الظّاهرة أو بعبارة أخرى «تصدير الثّورة». إنّ الحسرةَ على الأمس البعيد الّذي زُيِّن بالألوان الأصليّة المشرقة دون غيرها واليأسَ من حاضر خانق مُؤرِّق والحيرةَ على غدٍ غامض الملامح ضبابيّ الآفاق، كلُّها عواملُ تفاعلتْ. فخلقتْ حالةً نفسيّة عامّة تُكابدها شعوبُنا بدرجات مختلفة ومتفاوتة. وهي حالةٌ بلغتْ من العمق مدًى جعلها تمنع، أو تكاد، محاولاتِ إعمال العقل النّاقد. لِنقلْ تجوُّزا إنّها حالةُ 'اكتئاب جماعيّ'. والاكتئابُ المرَضيّ قد تنتاب المصابَ به نوباتُ نشاطٍ بدنيّ وذهنيّ ونفسيّ لا يُبرّرها منطقٌ أو حدثٌ. وكذا الحالُ بالنّسبة إلى شعوبنا. إذ يحدث أن تنتابها نوباتُ حماسةٍ ملتهِبة تمرّ مرورَ الكرام أحيانا وتأكل الأخضر واليابس أحيانا أخرى. ثمّ تخبُو الجذوةُ، فكأنّها لَم تكنْ. إذْ لَم يكن في تلك الحماسة قدرٌ ضروريّ من العقلانيّة يُخصبها ويُغذِّيها ويصلُب عودَها. ويحدث أن تظلّ هذه الحماسةُ مستتِرةً خجلَى من الانفضاح مَشُوبةً بالتّشفّي خاصّة عندما يذبح عناصرُ 'القاعدة' عدوّا مّا [هو عدوٌّ بالقوّة وإن لم يكن عدوّا بالفعل] ذبحا علنيّا، ثمّ يتصافحون باسمين ويتبادلون التّهانيَ عند رأسه المقطوع النّازف.
ما أقربَ هذا المشهدَ البشِع ممّا كان يفعله أكلةُ لحوم البشر! وما أشبهَ رقصاتِ أولئك الغابرين حول الجسد الآدميّ الذّبيح بمصافحات هؤلاء المعاصرين وابتساماتهم وتهانيهم المقزِّزة لأيّ حسّ إنسانيّ سوِيٍّ أو شبهِ سويّ. وإن كان مبرّرُ أولئك ضمانَ القوت أو إثباتَ القوّة أو الثّأرَ والانتقامَ أو التّقرّبَ إلى الآلهة، فما مبرّرُ هؤلاء؟ لا ورقةَ توت لديهم يسترون بها عورةَ فعلتهم اللاّإنسانيّة النّكراء[4].
رغم تمايُـزِ الجماهير الغفيرة الّتي تَدِينُ بالظّاهرة اللاّدنيّة فإنّها تلتقي إجمالا في مبدإ الطّاعة السّلبيّة 'للزّعيم' وفي مبدإ العنف النّفسيّ ضدّ الآخرِ– الكافرِ بالضّرورة، كما كنّا بيّنّا. وتستوقفنا من هذه الجماهير فئتان هما الأكثرُ هشاشةً والأضعفُ مناعةً.
أُولاهما: فئةُ الشّباب. فهي المستهدَفة بالاحتواءِ لأنّها ذاتُ كفاءة عالية في القدرة على التّماهِي مع الزّعيم والتّلبُّس به. لقد وجد الشّبابُ العربيّ – المسلم أخيرا ضالّتَه، وجد 'قضيّة' يعيشُ بها ولها. وليس الوعيُ بأبعاد هذه القضيّة وبخلفيّاتها السّياسيّة والاقتصاديّة وبالصّفقات المعقودة باسمها أمرا مطلوبا. فحسْبُ هذا الشّبابِ المستلَب التّائه أن يستمع بوهمِ الفعل في التّاريخ. لكن كيف يفعل في التّاريخ من هو خارج التّاريخ؟ تُرى هل يخطر هذا السّؤالُ على بالِ من فجّروا أنفسَهم في المطاعم الشّعبيّة أو في المستشفيات الّتي تغصُّ بالنّازفين أو في جامعات العلم والمعرفة؟
ثانيةُ الفئتيْن: هي المراهقون. فهؤلاء في بحثٍ دائب عن نموذجٍ يُلهِب خيالَهم المجنِّح. لقد تراجع 'عنترةُ بن شدّاد' مهزوما بألعاب الفيديو، وانسحب 'الزّيرُ سالم' يَجرّ أذيالَ الخيبة أمام أفلام حرب النّجوم، وهاهو 'صلاحُ الدّين الأيّوبيّ' يرقد في كتُب التّاريخ المغْبَرّة بعد أن داستْه عصاباتُ 'الأرغون'[5] ومثيلاتُها الشّقيقاتُ.
ملخّصُ القول: إنّ الفراغَ الإيديولوجيّ وحالةَ الاكتئاب الجماعيّ والرّغبةَ في فعلِ الرّفض أيّا تكنْ وسائلُه ونتائجُه. كلُّ هذا وغيره يفسِّر إلى حدٍّ مّا قولَنا بأنّ 'الظّاهرة اللاّدنيّة' حتّمها الدّاخلُ العربيّ – الإسلاميّ .
2- الدّوافعُ الخارجيّة:
ما الّذي يُحتّم تصنيعَ الظّاهرة اللاّدنيّة من طرف الخارج الغربيّ؟
نفترض بدءًا أنّ الغرب بزعامة صقور البيت الأبيض قد قرّر أن يعجز عن إلقاء القبض على زعيم 'القاعدة' السّـيّد 'أسامة بن لادن'. لَم يعجزْ لأنّ جبالَ 'تورا بورا' الّتي كادت القنابلُ المنهمرة عليها تُحيلها سهولا منبسِطة قد استعصتْ على جنوده المدجَّجين بالسّلاح. ولَم يعجزْ لأنّ العملاءَ والخونة قد ندُرتْ عُملتُهم، ولا لأنّ أقمارَ التّجسّس المعربِدة في سماء البلاد العربيّة – الإسلاميّة قد استقالتْ من مهامّها ولا لأنّ الزّعيم 'معصوم' من الخطر...
نعتقد إلى حدّ هذه اللّحظة على الأقلّ أنّ هذا العجزَ مفتعَلٌ ومُعَدٌّ سلفا. فإذا أُحرقتْ الورقةُ اللاّدنيّة، مَن للحرب على الإرهاب وقد صارتْ مسألةً مصيريّة لدى رافعِي رايتها؟ وكيف السّبيلُ إلى ترهيب الرّأي العامّ الأمريكيّ والعالميّ إذا قُيِّد المطلوبُ رقم واحد؟ وكيف سيُبرَّر الغزوُ الاستعماريّ للحقول النّفطيّة العربيّة إذا حلّ مُحرّكُ الفتنة الدّاخليّة ومشعلُ الحرب الإقليميّة المستشرَفة ضيفا على معتقَل 'غوانتانامو' أو أيِّ نسخة من نسخه المتناثرة هنا أو هناك؟
ليس بعيدا إذن أن تكون الظّاهرةُ اللاّدنيّة بضاعةً أمريكيّة أُعدّتْ وفق شروط الذّائقة العربيّة – الإسلاميّة لتظلّ إلى أجلٍ غير مسمًّى ورقةَ ضغط في يد المنتج ضدّ المستهلك. فهذه الظّاهرةُ تؤدّي أدوارا متشابكة متعاضدة، نلخّصها في ثلاثة.
أوّلُها: الدّورُ التّبريريّ: إذْ تُقدِّم الظّاهرةُ بعضَ المبرّرات للغزو الاستعماريّ الدّمويّ الّذي أسدلَ عليه قادتُه قناعَ محاربة الإرهاب. واستطاع محلّلُو أحداث 'الحادي عشر من سبتمبر 2001' الغامضة المشبوهة أن يُروِّجوا باقتدارٍ الشّعارَ التّالي: «ما دام الإرهابُ 'الإسلاميّ' يستهدفنا في ديارنا فلْنقضِ عليه في عُقرِ داره!».
ثانيها: الدّورُ التّرهيبِيّ: إذِ استطاعتِ الحكوماتُ الغربيّة أن تُلجِمَ شعوبَها إلجاما متفاوتَ الدّرجات عنِ الاحتجاج ضدّ جرائم جنودها الّذين استباحوا كلَّ القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة في بلاد الرّافدين خاصّة. وأداةُ الإلجام هي التّخويفُ من الآخر – المسلم الّذي تحالفتْ ضدّه تقنياتُ سينما الخيال العلميّ وآليّاتُ التّمويه الإعلاميّ حتّى تُخرجا له صورةَ 'الإرهابيِّ مصّاصِ الدّماء'. وهكذا فرض صقورُ البيت الأبيض هذا الإجراءَ التّعسّفيّ: «من ليس معنا فهو ضدّنا». وبعبارة أخرى: «من ليس مع الإرهاب الأبيض[6] فهو مع الإرهاب الأسود». إنّ زرعَ الرّعب في الدّاخل الغربيّ يُؤمِّن الجريمةَ المنظَّمة في الخارج العربيّ – الإسلاميّ.
ثالثُها: الدّورُ الفوضويّ: فالفوضى شرطٌ لازم لنهبِ خيرات البلد المستهدَف بلا رقيب ولا نذير. وهي شرطٌ واجب لتصفية المناوئين والمنافسين والمقاومين تصفيةً غيرَ مورِّطة ستُقيَّد ضدّ مجهول. والمجهولُ هنا 'عَلَم على رأسه نارٌ' يجهَر الأبصارَ. فنراه كأنّنا لا نراه.
حسبَ منطق الافتراض، تلك بعضُ المهامّ المنُوطة بعُهدة الظّاهرة اللاّدنيّة.
وبعيدا عن الانخراط السّلبيّ في نظريّة المؤامرة لا نستبعد أن يكون في الأمر مؤامرةٌ حقيقيّة تعاضدتْ فيها مواهبُ مرتزقةِ الدّاخل ومافياتُ الخارج، وتشابكتْ فيها مصالحهما تشابكا سلميّا غالبا وتصادميّا أحيانا.
وإذا عالجنا مسلسلَ الذّبائح البشريّة الّذي يُشرف تنظيمُ "القاعدة" على تنفيذه [نُرجِّح أنّ إخراجَ هذا المسلسل ذو بصمات هوليوديّة] وجدناه جزءا رئيسا من هذه المؤامرة. «إنّ الآدميَّ 'العربيّ – المسلمَ' لم يُفارقْ بعدُ لحظةَ التّوحُّش الأولى»: هذا ما تنطق به مشاهدُ ذبح الرّهائن، وهذا ما يتلقّفه الإعلامُ الغربيّ الدّائر في فلَك اللّوبيّات [أي جماعات الضّغط] الصّهيونيّة بلهفة صيّادِي الكنوز. وبقدرة قادر تصير المشاهدُ الاستثنائيّة المبتورة من سياقها حجّةَ من لا حجّةَ له على تفاوتِ الأجناس والحضارات وتفاضُلِها تفاضُلا أصليّا طبيعيّا. إنّها خدمةٌ لا تُقدَّر بثمن للعنصريّين الّذين لا يزال لهيبُهم ثاوِيا تحت الرّماد. وهي خدمة للاستعماريّين الّذين استبدلوا شعارَ «تمدين الشّعوب المتخلّفة» الرّائجَ في القرن الماضي بشعار مُجانس هو «نشرُ الدّيموقراطيّة» الّذي نفش ريشَه مع غزو العراق خاصّة. وهي أيضا خدمةٌ للصّهاينة الّذين يلوُون عنقَ الواقع الحقيقيّ كي يُقدِّموا أنفسَهم في صورة الحمَل الوديع الّذي تُحاصره قطعانُ الذّئاب حتّى من وراء 'جدار الفصل العنصريّ'.
تستهدف هذه المؤامرةُ المحكَمة أوّلَ ما تستهدف مقوِّمات الفكر العربيّ – الإسلاميّ الحرّ أو السّاعي إلى التّحرّر، وتستهدف ثانيا كلَّ مقوِّمات النّموّ الاجتماعيّ. وهذه وتلك، إن دُكَّت، ما عاد للذّخيرة المغرِية من الذّهب الأسود [النّفط] ومن الذّهب الرّماديّ [الغاز الطّبيعيّ] شأنٌ يُذكر. إنّ الذّخيرةَ – اللّعنةَ ينتظرها في الظّروف الرّاهنة مصيران: إمّا النّهبُ وإمّا أن تكون وَقودَ المحرقة الجماعيّة الّتي بدأ الهشيمُ العربيّ – الإسلاميّ يصطلي بنارها الجهنّميّة.
تتّضح وشائجُ القُربَى بين المنتِج [الغرب] وبين البضاعة الاستهلاكيّة المعدَّة للتّصدير [الزّعامة الدّينيّة المتطرِّفة] في المبدإٍِ الرّئيس الّذي يَدِين به كلٌّ منهما. فإذا أقسم الأوّلُ: «كلُّ مسلم إرهابيٌّ يجبُ قطعُ دابرِه[7]» حلفَ الثّاني: «كلُّ آخَر هو كافرٌ يجب جهادُه». في المشروعيْن المتناقِضين ظاهرا القدرُ نفسُه تقريبا من الطّابَع الدّمويّ والنّزعة التّصفَوِيّة والمنحى الإقصائيّ. ولذا يُلِحّ الغزاةُ على القفز قرونا إلى الأمام عاقِدين العزمَ على نشر الدّيموقراطيّة المعلَّبة بين قومٍ ليسُوا على استعداد لهضمها. وفي المقابل تصِرُّ الزّعامةُ الدّينيّة المتطرّفة على النّطّ قرونا إلى الوراء حتّى تُجبر التّاريخَ على أن يُعيد نفسَه وإن في شكل مهزلةٍ.
وفي انتظار أن يستيقظ العقلُ والضّميرُ عند قومنا يستمرّ الطّرفان في شدِّ حبل الزّمان. وهذا الحبلُ، كما تعلمون، يُطوِّق أعناقنا فردا فردا.
في نهاية المطافِ تُلِحّ علينا أسئلةٌ أخرى تولّدتْ ممّا سبِقها: إذا صدّقنا فرَضيّةَ وجود زعيم القاعدة 'أسامة بن لادن' على أرض الواقع ثائرا مطارَدا أو حليفا مقنَّعا، فما الثّمنُ المدفوع له كي يرضى بحياة الشّتات في كهوفِ 'تورا بورا'؟ أم هل يكون إرضاءُ عقدة الزّعامة وعُقدة جنون العظمة ثمنا كافيا؟ فهذا الزّعيمُ تتحدّث عنه كلُّ وسائل الإعلام العالميّة وتتلقّف أخبارَه وتدفع الغاليَ والرّخيصَ لتحظى بتسجيلاته، وهو فردٌ تُمجِّده جماهير غفيرة صدّقت بياناته وآمنت برسالته وائْتمَّتْ به ثائرا لا يلين، وهو الشّبحُ الّذي أرّق المواطنين المسالمين والمدنيّين الأبرياءَ في الغرب الأوروبيّ والأمريكيّ كما في كثير من الدّول العربيّة الإسلاميّة، وهو رأسُ رؤوس المطلوبين الّذي تُطارده المخابراتُ الغربيّة والعربيّة الحليفة وتعجز، رغم ما لها من إمكانات بشريّة وتقنيّة مُذهِلة، عن الإمساك به وإشفاء غليلها منه. هل هذه المطاردةُ على سبيل الحقيقة، أم هي على سبيل المجاز فحسبُ؟
إذا قُدِّر لهذا الزّعيم أن يغيب عن عالمنا فسيكون صقورُ البيت الأبيض والماسكون بمخانق الاقتصاد العالميّ الجديد وجلاّدُو شعوب العالم الثّالث أكثرَ الخلْق حُرقةً عليه. وقد يبكونه بدموعٍ من دمٍ. ولكن لن يطول الحدادُ. إنّما سيُصنَّع خليفتُه بأدقّ التّقنيات السّياسيّة والإعلاميّة المتاحة. وقد يتلقّى 'الخليفةُ المنتظَر' هو أيضا العلمَ في الجامعات الأمريكيّة، وقد يتحالف مع المعسكرِ الغربيّ ضدّ المعسكر الشّرقيّ أو ما يُعادله تحالُفا استراتيجيّا مؤقَّتا، وقد يُشرف باقتدار على زراعة الأفيون في جبال أفغانستان وعلى ترويجِه عبر المافيات المحلّيّة والأجنبيّة، وقد يُعلِن هو أيضا الجهادَ المقدَّس ضدّ كفّار حقيقيّين أو افتراضيّين، وبقدرة قادر سينقلب على وليّ نعمته ليرتديَ عباءةَ الثّائر المتمرِّد، وستتعزّى به شعوبُنا عن تحجُّرها في النّقطةِ الصّفرِ قائلةً: «واحدٌ منّا على الأقلّ قد دوّخ الأعداءَ. للّهِ درُّه من زعيمٍ لا يُقهَر».
أسامةُ بن لادن في سنواته الأخيرة قبل الاختفاء.
فوزيّة الشّطّي
تونس: 2007.08.13
[1] - الحتميّة: 'هي نظريّةٌ تقول بأنّ كلَّ ما يحدث في الكون على الإطلاق يخضع لقانون سببِيّ مّا'. الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، المجلّد الثّاني، القسم الأوّل، مادّة "الحتميّة"، بقلم: عادل ضاهر.
[2] - الطّائفيّة: «نظام سياسيّ اجتماعيّ متخلّف يرتكز على معاملة الفردِ كجزء من فئة دينيّة تنوب عنه في مواقفه السّياسيّة»، موسوعة السّياسة، الجزء الثّالث، ط2، 1993، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر.
[4] - بعضُ هذه المشاهد الدّمويّة يتبادله أبناءُ المدارس والمعاهد عبر الهاتف الجوّال، ويتفاخرون بحيازته ويتنافسون في القدرة على تحمّلِ مشاهدته واستعادة تفاصيله.
[5] - الأرغون: تعني "المنظّمة القوميّة العسكريّة"، أسّسها جابوتنسكي عامَ 1937 في فلسطين. بعد موته تزعّمها مناحيم بيغن. اِرتكبتْ جرائمَ إرهابيّة عديدة ضدّ المدنيّين الفلسطينيّين وضدّ السّلطات الإنكليزيّة أيضا.
[6] -«إنّ عبارة "الإرهاب الأبيض" الّتي تُستعمل في بعض الأحيان في مجال إرهاب الدّولة ليستْ في الواقع سوى توريةٍ وقِحة يُظلِّل بها الإعلامُ الدّعائيّ الرّأيَ العامّ». الإرهاب السّياسيّ، د.أدونيس العكرة، ط2، دار الطّليعة، بيروت، ص73.
[7] - الدّابرُ: من مادّة "دبر": هو الأصلُ. يُقال: "قطعَ اللّهُ دابِرَهم" أي استأصلهم وقطع آخرَ من تبقَّى منهم. المنجد في اللّغة والأعلام.
هناك تعليقان (2):
"التّطرّف الإيديولوجيّ الدّينيّ": لا يصنع الدّيموقراطيّة لأنّه لا يعترف بالآخر ولا يُقرّ بحقّ الاختلاف.
هو حتميّة استعماريّة: وهّابيّة - صهيونيّة - أمريكيّة
إرسال تعليق