% من أجلكِ مدرستي%
[نُشِر في
جريدة "الشّعب": 2009.09.26]
إيمانا
منّا بأنّ أهلَ مكّة أدرَى بشعابها وبأنّه لا يُحسّ لسْعَ الجمرة إلاّ من عفَسَها(1) نخوُض في بعض
شؤون المدرسة التّونسيّة حبًّا فيها واقتناعا راسِخا بِدورها الرّياديّ في صناعةِ
العقول وبناء ِالمجتمعات.
1- أوّلُ ما نقفُ عنده هو ظاهرةُ التَّعَصّبِ الدِّينـيّ الّذي يصلُ
حدَّ التّكفير عند النّاشئة التَّلمذِيّة. وليس في الأمر عجَبٌ لأنّ هذه الفئةَ نِتاجٌ
أمينٌ للبيئة الاجتماعيّة المحليّة والإقليميّة والعالميّة. أذكرُ على هذا حوادثَ
منتقاة أعتبرها عميقةَ الدّلالة على سذاجتها وعفويّتها وفوضويّتها.
- مع مستوى
الأولى ثانوي كثيرا ما يُكفَّر شاعرُ الغزل الإباحيّ عمر بن أبي ربيعة [644م-712م] تكفيرا شفويّا
أثناء شرح أشعاره غالبا وتكفيرا كتابيّا في المقال الأدبيّ أحيانا. فقد أعدّ له،
مثلا، أحدُ التّلاميذ هجائيّةً مُقذِعةً خارجةً تماما عن أطروحةِ الموضوع
الإنشائيّ معتبرا إيّاه «فاسِقا زنديقا». ولولا الخوفُ من الجزاءِ لَطلب أن يُقامَ عليه
الحدُّ وأن يُحرقَ ديوانُه في السّاحات العامّة! وأعترفُ بأنّي "عجزتُ"
مرّة مع قسمٍ صعْبِ المِراس عن شرح نصّ "مغامرة"(2) شرحا كاملا
لأنّ أغلبَ التّلاميذ كانوا ثائرين ضدّ الشّاعرِ وحبيبتِه العابثيْن بالعِرض والمستهتريْن
بالقيمِ الدّينيّة والأخلاقيّة. حتىّ إنّ أحدَهم -وكان مشاكِسا متحرِّرا من الضّوابط السّلوكيّة جميعِها- سألني مُهتاجا
ملتاعا متحيِّرا وهو يضرب بجُمْعِ كفّه على طاولته: «أريد أن أعرفَ أين كان أبُوها وأمُّها طول اللّيل!».
- مع نفس
المستوى الدّراسيّ شرحتُ نصَّ "إرادة الحياة" لأبي القاسم الشّابي. ووقفنا
طويلا عند بيت هو أمّةٌ برأسِه: «إذا الشَّعبُ يومًا
أرادَ الحيَاة ... فلاَ بُدّ أنْ
يَستجِيبَ القَدرْ». ومن الغد جاءني تلميذٌ
يبدُو أنّه باتَ يفكّر في البيتِ وشرحِه ليقول لي في ما معناه: «لقد كان معاصرُو الشّابي على حقٍّ عندما كفّروه.
فكيف يُعقَل أن يستجيبَ القدرُ للبشر؟! إنّ واجبَ الإنسان أن يَخضَع للإرادةِ
الإلاهيّة لا أن يُخضِعَ القدرَ لإرادته البشريّة المحدودة». اِستماتَ في محاولةِ إقناعي بوجهة نظره الّتي لا يجد لها نِدّا
أو بديلا. ثم غادر محتجّا على الشّعر الّذي يَخِزُ الضّميرَ الدّينيّ ويعبثُ بالمقدَّسات.
- كنتُ مع قسمِ الثّانية ثانوي أشرح خمريّةً لأبي نوّاس
الحسن بن هاني [757م-814م] مُنتشِيةً بطرافة التّصوير وظُرف التّعبير وجِدّة
المعاني. وإذا بتلميذٍ يقاطعني بلا استئذان قائلا في انفعال: «كيف تجرؤُ وزارةُ التّربية على تدريسنا هذه الخمريّات
ونحن صغارٌ سريعُو التّأثر؟! أليستْ تُفسد أخلاقَنا بهذه النّصوص؟! أوَليستِ
الخمرةُ حراما محرَّما في ديننا الإسلاميّ؟!».
كان خطابُه سلسلةً من الاستفهاماتِ الإنكاريّة الّتي لا تطلبُ جوابا لأنّها تتضمّنه.
فما كان يستخبر، إنّما يحتجّ. لم ينفعْ مع هذا التّلميذِ وأمثالِه التّركيزُ على
القيمة الفنّية والأدبيّة والمرجعيّة لهذا النّموذج من تراثنا الشّعريّ العتيدِ،
لم ينفعْ معه التّأكيدُ أنّ الأدبَ ليس بالضّرورة مرآةً عاكِسة للواقع أو وثيقةً
تاريخيّة عمّا كان حقّا، لذا لا نُدِينُ الأديبَ ولا نكفِّره ولا نعرِضه على "محاكم
التّفتيش" وليس من حقّ الغستابو(3) أن يلاحقَ أحلامَه أو يصفِّد ملَكةَ خياله أو يصادِر
ثروتَه الّتي قُدَّت من حقيقةٍ ومجازٍ.
- بحماسةِ المحاربين جادلتني تلميذةٌ في الرّابعة من شعبة
العلوم التّجريبيّة مُدَّعِيةً أنّ مصطلحَ "العَلمانيّة"(4) مرادفٌ للكُفرِ
والإلحادِ ونفيِ وجود الله. ولذا كفّرتْ العَلمانيّين جميعا. حاولتُ إقناعها بأنّ
هذا المذهبَ يفصلُ بين الدّين والدّولة دون أن يُنكرَ بالضّرورة الدّينَ أو اللهَ.
وعندما أدركتُ عبثيّةَ مسعاي حضضتُها على أن تراجعَ بنفسها القواميسَ والموسوعات
العلميّة (5) وأنا أدري
سلفا أنّها لن تفعلَ لأنّ اقتناعَها الرّاسخ بذاك التّرادف هو مجرّدُ قطرة من بحر
التّعصب الّذي «يُطيِّنُ عينَ الشّمسِ»(6) والّذي يُغرقُها وجيلَها بأمواجِه العاتية وأعاصيرِه
المدمِّرة.
هذا الصّنفُ من النّاشئةِ لا يريد أن يفكّرَ،
استقال عقلُه من مهامِّه الطّبيعيّة كي يتركَ الدُّعاةَ المبشِّرين يفكّرون نيابةً
عنه ويلوُون عنقَ الحقيقة كيفما شاءتْ مصالحُهم واشتهتْ سفنُهم. وبفضلِ القنوات
التّلفزيّة الّتي تستضيف من هبّ ودبّ للإفتاء في كلّ شيء وفي لاشيء صار تلاميذُنا
يتبارَوْن في إصدارِ فتاوِي التّحليل والتّحريم، صاروا يطالبون مدرِّسيهم بأن يَلبسُوا
جبّةَ الـمُفْتِـي الفقيهِ وأن يحسِموا الأمورَ الخلافيّةَ القديمةَ والحادِثةَ
لترتاحَ نفوسُهم الّتي يُعذّبها الشّكُّ ويُحرقها الشّوقُ إلى برد اليقين. جرّاءَ
التّكفير الّذي أضحى ضدِيدا للتّفكير تنهالُ علينا أحكامُ التّحريم: في التّغزّلِ
الإباحيّ بالنّساء، في التّغزّل بالمذكَّر، في الموتِ حبّا على شاكلة الغَزِلين
العذريّين، في تعظيمِ الممدوح الّذي نَـمْذَجتْه مخيّلةُ المادِح، في مدحِ الخمرة
وشربها ولو مجازا، في تقديسِ إرادة الشّعوب... ومِن المضحِكات المبكِيات أن
يُكفَّر شعراءُ الجاهليّة الّذين لم يُدركوا الإسلامَ لنفس الذّنوب والخطايا! وأسوأ
ما في هذه الظّاهرة أن تُعلَن أحكامُ التّحريم بوُثوقيّةٍ وصلابةٍ وعنفٍ نفسيّ كما لو
أنّها ثأرُ موْتورٍ (7).
أقفُ متفكّرةً في هذه الأحداث لأنّي لم أعشْها
مع تلاميذي قبل عشر سنوات. ولا أصدِّقُ أنّ الصّدفة هي وحدها المسؤولةُ عن وقوعِها
معي في السّنوات الأخيرة. إنّ النّاشئةَ التّلمذيّةَ تتفاعل مع بُؤسِ واقعها بما
تيسّر لها من آليّات دفاعيّة مُهترِئة. ولأنّها هشّةُ التّكوين ضعيفةُ المناعة
ينخرها بكلِّ يُسْر وباءُ التّعصّب الأعمى ويحفر فيها أخاديدَ سيصعُب ردمُها حتىّ
على المدَى البعيد.
2- أمّا
الظّاهرةُ الثّانية الّتي نراها جديرةً بالوقوف عندها مطوَّلا فهي حَالةُ اليَأسِ الّتي تلتهمُ
الطّاقةَ النّفسيّة وتكبِّل القدرةَ الإنتاجيّة. فرغم السّنّ المبكِّرة يغمر اليأسُ
من المستقبل نسبةً هامّة من النّاشئة التّلمذيّة. هو يأس من النّجاح المدرسيّ، من إيجادِ عمل مناسب بعد التّخرّج، من توفيرِ عيش كريم
بعد الفوز بعمل... وكثيرا ما يصير اليأسُ مبرِّرا للعبث الدّراسيّ. فما دام الأفقُ
مسدودا علامَ أُرهقُ النّفسَ؟! ما حاجتي إلى شهادةٍ موضوعة في إطار معلَّقة على
جدار؟! ما أصنعُ بمرتَّب أشقى لأجله ثمّ أعيش به فقيرا لاهثا محروما؟!
جرّاءَ
هذا اليأس وغيره من الأسباب الظّاهرة والخفيّة، ما زالتْ "إيطاليا" تحظَى
بالشّعبية المدهشة لِكونها بوّابةَ العالم الغربيّ، أي بوابّة "جنّات عدْن"
الّتي تجري من تحتها أنهارُ العملة الصّعبة وبها تنمُو باسقةً مبادئُ الحرّيّة
والعدالة والدّيمقراطيّة الّتي تعلُو ولا يُعلَى عليها! فقد صارحني مرّة بعضُ
تلاميذ الثّانية ثانوي بأنّهم يأملون حقّا في الهجرة غير الشّرعيّة إلى إيطاليا ولن
يُفلتوا الفرصةَ إذا سنحتْ. عبثا حاولتُ إقناعَهم بلاَجدوى هذه العمليّة الانتحاريّة
وبلاإنسانيّة الظّروف الّتي يكابدها هؤلاء المهاجرون قبل الرّحلة وأثناءها وبعدها.
فإنْ أمِنُوا غدرَ المهرِّبين وغوائلَ البحر ليس مستبعَدا أن يحصُدهم رصاصُ حرس
الحدود بأوامر سياسيّة عليا، وإنْ أفلتوا من الموت رميا بالرّصاص ستقتنصُهم المنظّماتُ
المافيويّة المتنافسة لتمتصَّ دماءَهم الرّخيصة حتّى الجفاف، وإنْ راوغُوا هذه سيعيشون
عبوديّةَ القرون الماضية عيشةَ أهل الكهف بعيدا عن عيون الحكومة، لكنْ بعيدا أيضا
عن المدارس والمستشفيات والخدمات الاجتماعيّة الضّروريّة. يكفي أن نذكر أنّ النّسبةَ
المفزِعة للأميّة بين أبناء المهاجرين غير الشّرعيّين صارت تُحرج الحكومةَ
الإيطاليّة اليمينيّة أمام المنظّمات الإنسانيّة العالميّة وأمام جيرانها من
"الغرب المتمدِّن"... أنهيتُ خطابي المنمَّقَ ولَمَّا يقتنعْ أحدٌ.
فلجأتُ إلى سياسة التّخويف والتّرهيب علّها تنجحُ حيث فشِل المنطقُ الواقعيّ. وقلتُ
لأكثر التّلاميذ حماسةً: «سيأكلُك سمكُ
القرش قبل أن تنعمَ بمرأَى سواحل صقليّة!». فأجابني
بثباتٍ ورزانةٍ ما زلتُ أحسدُه عليهما: «أفضّلُ أن ينتفعَ
سمكُ القرش بلحمِي على أنْ أظلّ هنا ميْتا بالحياة».
امتنعتُ عن التّعليق، وأغلقتُ
قوسَ المحاورة، ولُذْتُ بدرسي فِعلَ الهارب من كابوس.
يتأتّى اليأسُ أيضا من الشّعور بالاختناق بسبب ضُعفِ
التّواصل أو انقطاعه مع الأسرة والمدرسة والشّارع ومع الذّات أحيانا، وهذا أخطرُ
أنواع الاختناق. وتعترفُ النّاشئةُ التّلمذيّةُ بذلك كلّما استطاعت. لذا يُسمِّي
بعضُ التّلاميذ مادّة "التّواصل الشّفويّ" حصّةَ «فرِّغْ قلبَك».
ولن أنسَى بسهولةٍ تلميذا عابثا كسولا مشاكِسا جرّبتُ معه كلَّ أصناف العقوبات
الإداريّة بلا فائدة وهو يقتربُ منّي عند نهاية حصّةِ تواصُلٍ -وكان موضوعُها الصّراعُ
بين الأجيال- ليقول لي بصدقٍ لا غُبارَ عليه: «ليتَ كلَّ ساعاتِ
العربيّة تصبحُ تواصلا شفويّا». هذا لأنّها
مادّةٌ لا تكلّفُه مجهودا عمليّا واستعدادا ماقبليّا أوّلا ولأنّها ثانيا تُنفِّس
عنه بعضَ الكَرَبِ والغمِّ، تُشعِرُه بأنّ صوتَه مسموعٌ وأنّه قادرٌ على أنْ يَصدَعَ
برأيه الخاصّ على عيون الملإ. لذا يتكلّمُ في هذه الحصّة الجميعُ حتىّ من اِعتقلَ
العجزُ لسانَه في حصص النّحو والبلاغة والشّرح وغيرها.
يدلّ الخوفُ من التّعبير عن الرّأي الخاصّ، في
وجهٍ من وجوهه، عن حالة الاختناق هذه. مثالي على ما أدّعي أنّه لا تمرُّ حصةُ
"دراسة النّصّ" الّتي تتضمّن دوما سؤالَ رأيٍ، تدريبا كانت أو إنجازا أو
إصلاحا، إلاّ وقد أجبتُ عشرات المرّات عن هذا السّؤال الخائف المرتبك: «هل أكتبُ رأيِي الحقيقيَّ فعلا؟!». ورغم كلِّ التّطمينات الّتي أقدّمُها إلى الممتحَنين
أجدُ منهم، وأنا أصلحُ الفروضَ، مَنْ يراوغون في الإجابة عن هذا السّؤال حتّى لا
يكشِفوا رأيَهم الحقيقيَّ خشيةَ أن يتعارض مع رأيِي. ويومَ إرجاع الفروض يعترفُ
بعضُهم بهذه الخشية صراحةً وعذرُهم الإضافـيُّ أنّهم تعوّدوا ردَّ البضاعة كما هي.
فهذا أسلمُ لهم وأحفظُ للعدد الـمُرتَجَى.
سببُ
الطّرحِ المتكرِّر للسّؤال المذكور هو أنّ التّعبيرَ عن الرّأي ثقافةٌ أساسُها الدُّربةُ
والمِرانُ منذ الطّفولة المبكّرة، به نقيسُ مدى توازنِ الكيان الفرديِّ ودرجةَ
صحّته العقليّة والنّفسيّة. وهذا وضعٌ معدومٌ عندنا أو يكاد. فحتّى الّذين تطالبُ
حناجرُهم المدوِّيةُ بالدّيمقراطيّة لا يستنكفون من قمْعِ غيرهم، كأنّما هذا
المطلبُ فرضُ كِفايَةٍ أو هو حقٌّ بالنّيابة والتّوكيل. ثمّ إنّ الحريّةَ في
التّعبير كما في غيره مسؤوليّةٌ ثقيلة لا يتحمّلها العقلُ المستقيل المتواكِل
المهزُوز. ما زال إذنْ حفظُ أقوال المدرِّس وآرائه سنّةً "علميّة" في
المدرسة التّونسيّة ابتدائيّةً وإعداديّة وثانويّة. والأخطرُ من هذا أنّ الظاهرةَ
تستمرّ حتميّا في الجامعة عند الطّلبة كما عند الباحثين. فالخارجُ عن فلَك
"المعلِّم الأكبر" غالبا ما يُعَدُّ مغرورا ناكِرا للمعروف يتطاولُ بقامته
الضّئيلة على عمالقةِ العلم والمعرفة!
* حتّى لا يبقَى
كلامُنا تنظيرا مَـحْضا ونقدا احتجاجيّا نُقدِّم بعضَ المقترحات الّتي نروم بها
المساهمةَ المتواضعة في تحسين أداء المدرسة التّونسيّة أو في حلّ بعض أزماتها على
الأقلّ.
1- أثبتتْ «استراتيجيّةُ النّعامة»
دائما وأبدا فشلَها الذّريعَ. ولذا فإنّ مواجهةَ ظاهرة التّعصّب والتّكفير عند
النّاشئة التّلمذيّة في الحرم التّربويّ الّذي يمثّل أكبرَ تجمُّع لهم -بعد الملاعب
طبعا- هو جزءٌ من الحلّ. وعوض أن نستجيبَ إلى الأصوات المتطرِّفة الّتي تطالب بمنع
تدريس الدّين الإسلاميّ، نرى أن ندرِّس الأديانَ جميعَها أو أغلبَها إسلاما ومسيحيّة
ويهوديّة وبوذيّة وهندوسيّة وزرادشتيّة ومانويّة وغيرَها الكثير. وسيكون الأجدى أن
نلتفت التفاتةً كريمة إلى معتقدات العرب قبل الإسلام وإلى أساطير الإغريق والرّومان
والفراعنة... فهذه النّصوصُ الأخيرة ساحرةٌ بما فيها من تخيِيلٍ ومن عجيب ومن
تعبير عن طفولة البدايات. ثمّ إنّها مع الأديان السّماويّة وغير السّماويّة تؤكِّد
أنّ تنوُّع المعتقَد أمرٌ واقع وحاجةٌ ضروريّة وأنّ القيمَ الإنسانيّة الخالدة هي
الجامعُ بين شتّى الأديان والمعتقدات مهما تباينتْ. فجميعُها عبر تاريخنا الطّويل
المعقَّد تعبِّرُ عن توقِ الإنسان بدأب دؤُوب إلى عَقْلِ العالَم وعقْلَنتِه، إلى
اِكْتناهِ كينونته البشريّة المتفلِّتة، إلى إسكاتِ حيرته الوجوديّة السّرمديّة.
ربّما
يكون التّواصلُ الشّفويّ أنسبَ الحصص لهذه المهمّةِ الجليلة: مهمّةِ ترسيخ
ثقافة دينيّة صحيّة ستقف شيئا فشيئا صمّامَ أمان ضدّ "الدّين الشّعبـيّ"
الّذي تروِّجه عن سابقِ إضْمارٍ وترصُّد القنواتُ التّجاريّة المشبوهة. ولعلّي أقعُ
في المطالبِ البورجوازيّةِ لو اقترحتُ تنظيمَ زيارات تلمذيّة إلى أهمّ ما عندنا من
الجوامع والكنائس [لن تكون زيارةُ المعابد اليهوديّة ممكنةً حتّى لو أردنا
لأنّها واقعةٌ في حماية الصّهيونية العالميّة وتحت يدِها الطُّولَى في كلّ
البلدانِ شرقيِّها وغربيِّها]. في هذا السّياق أذكرُ أنّ أحدَ التّلاميذ كاد أن يكفّرني،
لولا بقيّةٌ من حَياء، عندما حدّثتُهم عن الرّسوم والتّماثيل الّتي تزخرُ بها كنائسُ
مسيحيّةٌ كنت زرتُها والّتي يُدعَى إلى إنجازها أبرعُ الرّسّامين والنّحّاتين في
العالم. قلتُ ذلك شاهدا على تنوّع بيوت الله مع أنّها تؤدِّي الوظائفَ نفسها
تقريبا.
2- أقترحُ أن تُفرِد
المدرسةُ التّونسيّة مكانةً خاصّة مهيّأة للصّورة المتحرّكة [الأفلام السّينمائية، الأفلام الوثائقيّة، الومضات الإشهاريّة...]. وحتّى لو حَظِيت النّاشئةُ بهذا الدّرس مرّات قليلة في العام سيظلُّ وقعُها
فيها كبيرا. مِن الواجبِ أنْ نعرف: كيف تتعامل هذه الفئةُ الهشّةُ مع عالم الصّورة
الّذي يحاصرها وبأيّ عينٍ ترى: العين المنبهِرة أم النّاقِدة أم اللاّمبالية. والمشاهدةُ
الجماعيّة المنتقاة بإشراف المدرِّس هي الكفيلةُ بتطوير نوعيّة استهلاك النّاشئة
للصّورة. وقد لمستُ مرّةً مع التّلاميذ الحالمين بالهجرة غير الشرعيّة تأثيرَ الصّورة
المتحرِّكة فيهم حتّى وهي محكيَّةٌ: رويتُ لهم الفيلم الوثائقي «شُهَداءُ
خليجِ عَدن»(8) الّذي يعرض نماذجَ مُـخزِيةً مِن مآسي المهاجرين
السّرّيين الهاربين من الصّومال إلى اليمن عبر خليج عدن. ربّما لم يقتنعُوا ولم
يعدِّلوا حلمَهم الكبير، لكنّهم لم يجادلوني كما فعلوا سابقا. وأرجّحُ أنّ الصّمتَ
الاختياريّ في مثل هذه الحالة كان شكلا من أشكال التّفكير الواقعيّ العقلانيّ. أجزمُ
أنّ التّأثيرَ كان سيكون حاسما لو شاهدوا الفيلم بعيونهم.
3- من حقِّ النّشاط الثّقافيّ في المدرسة التّونسيّة ومن مصلحتِه أن يستقلَّ
عن الشّأن السّياسيّ لأنّ الارتباطَ التّلازميّ الصّريحَ أو الضّمنِيَّ بينهما
يضيّعُ الثّقافةَ ولا ينفعُ السّياسةَ. ثُمّ إنّه تلازمٌ غيرُ طبيعيّ وغيرُ منتِج
يُهدِرُ الكفاءات من المدرِّسين والمواهبَ
من المتعلِّمين ويُنفِّرُ النّاشئةَ من التّمرُّن على استهلاك الثّقافة. هذه الكفاءاتُ
والمواهبُ ستُغني الشّأنَ الثّقافيّ وتسهمُ في تحصين المجتمع من أمراض العصر عاجلا
وآجلا. إنّ الثّقافةَ، كما نعلم، صمّامُ الأمانِ الأهمُّ والأجلُّ. وجرُّها
بالسّلاسل إلى غيرِ تُربتها يُفسِدُ الأمرَ على الجميعِ: الجارِّ والمجرورِ.
لا
أزعمُ أنّ لهذه المقترحات مفعولَ السِّحر. فليس السّحرُ ما يفكُّ عُقدتَنا ويحلُّ
أزمتَنا. إنّما هي غيْضٌ من فيْضِ الإصلاحات الّتي تحتاجها المدرسةُ التّونسيّة
بكلّ فروعها ومكوِّناتها. وإذا ما تخلّتِ المدرسةُ عن هذا الدّور العلميّ-
الاجتماعيّ فمَن سيتصدَّى له؟ أيكون الإعلامُ أوْلَـى بهذا الشّأن وأقدرُ عليه وهو
الرّاقصُ على إيقاعات "المزود" ومشتقّاتِه خمسًا وعشرين ساعةً في اليوم
حاملا نِبراسَه الهادِي: «أخُو الجهالَةِ في
الشَّقاوَةِ يَنْعَمُ»(9)؟!
تعيشُ الناشئةُ اليوم رِدَّةً متعدِّدةَ الوجوه
مقارنةً مع ما حقّقه الجيلُ السّابق، ليس التّعصّبُ واليأسُ والاختناقُ إلاّ وجهَها
الأوّلَ، أمّا وجهُها الثّاني فهو الميوعةُ المنفلِتةُ من كلّ قيدٍ وشرطٍ... والأسبابُ، وإنْ كانتْ أكثرَ من أن تُحصَى، لا
تُعفِي المدرسةَ من مسؤوليّتها على ما كان وعلى ما يجب أن يكون. فالعبثُ الحاصل لا
يخدم مصلحةَ أحدٍ، حتّى ذاك الذي يُـمنِّي النّفسَ بأنّه المستفيدُ الغنّامُ من
تميِيع المدرسة وتهميش مُرتادِيها معلِّمين ومتعلِّمين سيكون على الأرجح أكثرَ
المصْطلين بجحيم العبثيّة التّخرِيبيّة. فمِنَ التّائهِ الـمُنْبَتِّ المختلِّ
الخُطَى نتوقعُّ أضعافَ "الشّرّ" الّذي يمكن أن يقترفُه "مُصابٌ
بلَوثةِ الوعْي الشّقيّ".
الهوامش:
1– "عَفَسَ يَعْفِسُ عَفْسًا: الشّيءَ: وطِئَه وألزَقه
بالتّراب وجذَبه إلى الأرضِ في ضغطٍ شديدٍ"، ابن منظور، لسان العرب، ط1، ج4، 1997، دار صادر،
بيروت.
2– "مغامرة" هي قصّة شعريّة تروِي قضاءَ
"الشّاعر" ليلةً كاملة عند إحدى حبيباته. ورغم أنّه أقبل عليها دون موعد
مسبّق فقد أحسنتْ وِفادته وبادلته جميلَ الوصال. والنّصّ مغامرة فريدة لأنّه زارها
في بيت والديها وبين أبناء قبيلتها، ثمّ غادر فجرا متنكِّرا في زيٍّ نسائيّ خدع به
حرّاسَ الدّيار وحُماةَ الأعراض.
3– الغستابو: هو البوليس السّرّي الّذي احتلّ مركزَ القيادةِ الإرهابيّة في
النّظام النّازيّ بزعامة أودولف هتلر [1889-1945].
4– العَلمانيّة laïcisme:: مصدر صناعيّ يتّصل بكلمة
العَلْم أي العالَم. وهي الفصل بين الدّين والدّولة وتدعو إلى تطبيق: "القوانين
الوضعيّة باعتبار القانون يُصاغُ من أجلِ المصلحة، و المصالِحُ تتغايرُ، و تتغايرُ
من ثَمَّ القوانينُ [...] والعَلمانيُّ المسلمُ مثلا يصلِّي ويصوم ويزكِّي، ولكنّه
لا يرى الأخذَ بالاقتصاد الإسلاميّ ويُنكرُ الحدودَ وينتقصُ من الشّورى". عبد
المنعم الحفني، "المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة"، مكتبة مدبولي، ط3، 2000، القاهرة.
5– بالعودة إلى "الموسوعة العربيّة العالميّة" في
طبعتها 2 الصّادرة سنة
1999 عن "مؤسّسة
أعمال الموسوعة للنّشر والتّوزيع" في الرّياض، فُوجئتُ بعدم تخصيصِ فصل
لمصطلح العَلمانيّة. فقد أُدرِجَ تعريفُه في فصلِ "الإلحاد" ثمّ في فصلِ
"العلوم السّياسيّة".
6– هذا "مثلٌ عربيّ يُضرَب لمن يسترُ الحقَّ الجليَّ الواضحَ". "المنجد
في اللّغة والأعلام"، قسم: فرائد الأدب في الأمثال والأقوال السّائرة عند
العرب، ط41، 2005، دار المشرق،
بيروت.
7– الموتُورُ: اسم مفعول من "وَتَرَ": من قُتِلَ له قتيلٌ فلمْ
يُدرِكْ بِدمه. "المنجد في اللّغة والأعلام".
8– عُرض الفيلم في الدّورة الرّابعة 2009 من "اللّقاءات الدّوليّة للفلم الوثائقيّ
بتونس". عنوانه الأصليّ: "Les martyrs du golfe d'Aden" أخرجه الفرنسيّ: Daniel Grandclément.
9– هذا عجُز بيتٍ حِكْميّ شهير لأبي العلاء المعرّي [973م-1057م]. والبيت كاملا هو:
«ذُو العِلم يشقَى في النّعيمِ
بعقْلِه ... وأخُو الجهالةِ في الشّقاوةِ ينعَمُ».
فـــــــــوزيّـة الشّـطّي
تونس: 2009.07.11
المدرسةُ نوّارةُ الشّعوب
هناك تعليق واحد:
ما عساي أقول الآن وقد زاد الخرابُ؟؟؟
إرسال تعليق