النّكبة: ضدّ النّسيان
[نُشر
في جريدة 'الموقفُ' التّونسيّة، بتاريخ: 2011.05.21]
بعد
أنْ أباد الغزاة الأروبيّون ثلثيْ الهنود الحمر في العالم الجديد منذ تاريخِ
الاكتشاف إلى نهاية المقاومة الهنديّة المسلّحة سنة [1890]،
كانت نكبةُ فلسطين [1948] أبشع جريمة ضدّ الإنسانيّة تُرتكب إلى يومنا هذا.
رَوّجتِ الصّهيونيّةُ شعارَ «أرض بلا شعب لشعب بلا
أرض». وأقنعتِ الرّأيَ العامّ العالميّ بأنّ «أرضَ الميعاد» خلاءٌ قفار وبأنّ «يهودَ الشّتات» شعبٌ موحّدُ العرقِ والدّين والتّاريخ فرّقته الحساباتُ
السّياسيّة والحدودُ الجغرافيّة. وبعد «63» سنة ما زالتْ هذي الكذبةُ الكبرى تَحظى
بالشّرعيّة لدى الجهاتِ الرّسميّة وبالصِّدقيّة عند شعوبِ العالم. بل اكتسبتْ سلطةً
تجعل مجادلتَها أو مراجعةَ تفاصيلها تزويرا للتّاريخ واعتداءً على القانون وعنصريّةً
ضدّ «شعبِ اللّه المختار».
ما كانت الحركةُ الصّهيونيّة الّتي أسّسَها الصّحفيُّ النّمساويّ «تيودور هرتزل» [1860-1904] لِتنهبَ وطنا من
مواطنيه لولاَ دعمُ القوى الاستعماريّة: بريطانيا منحتِ الصّهاينةَ
«وعد بلفور: 2
نوفمبر 1917» بموافقةِ فرنسا
والولاياتِ المتّحدة الأمريكيّة. اِلتقتْ مصالحُ الطّرفين: قرّر الصّهاينةُ
تأسيسَ وطنٍ قوميّ لليهود أيّا يَكُنْ كبشُ الفداء، فلسطين أو العريش المصريّ أو أوغندا أو مدغشقر. وارتأى الغربُ
الاستعماريُّ غرسَ دولةٍ حليفة موالية تُـمزّق الجسدَ العربيّ- الإسلاميّ، لِتظلَّ
المنطقةُ الّتي تحوي حواليْ نصف الاحتياطيّ العالميّ من النّفط [الكويت 8٪، العراق 12٪، السّعوديّة 25٪] في اضطرابٍ دائم
يستدعي التّدخّلَ العسكريَّ الرّاحل والمقيم. أباح التّحالفُ الصّهيونيُّ- الاستعماريُّ ممارسةَ
الإرهابيْن الأسود [إرهاب الأفراد والعصابات] والأبيض [إرهاب الدّولة] اللّذيْن ألقيا بأغلبِ
الفلسطينيّين في «الشّتات» بعد أن ارتكبا في
حقِّهم حملاتِ إبادةٍ مروِّعة.
في هذا السّياقِ مِنَ
المحتمَل جدّا أنّ الزّعيمَ النّازيّ «أودولف هتلر» [1889-1945] قد خصَّ «اليهودَ الاندماجيّين» الرّافضين لمغادرة
وطنِهم ألمانيا بالاضطهادِ الأعنف مُسهِّلا مهمّةَ تهريبِهم عن طريق رومانيا متحالِفا
مع الصّهاينة العازمِين على ترحيلِ أكثر ما يمكن مِنَ اليهود إلى فلسطين لتقليص الـهُوَّة
العددِيّة مع العرب هناك. اِلتقتِ المصالح: «هتلر» القوميُّ المتعصِّب يريد
تطهيرَ قلعةِ الجنس الآريّ وتخليصَ ألمانيا المأزومةِ اقتصاديّا مِنَ الضّغط
السّكانيّ ، والصّهاينةُ يحتاجون
تعميرَ الأراضي المنهوبة والدّيار المسلوبة وفرضَ سياسةِ الأمر الواقع. صناعةُ
الرّعبِ هذه ضاعفتْ أمام «الوكالة اليهوديّة» أفواجَ المهاجرين
البؤساءِ العالقين بين سِندانِ النّازيّة العنصريّة ومطرقةِ الصّهيونيّة
الميكيافيليّة.
أمّا عقدةُ الذّنبِ الألمانيّة فهي مناورةٌ
سياسيّة قد تُكفِّر لألمانيا ما اعتُبر «جريمةَ إبادة جماعيّة» أو تُبرّئها ضِمنيّا
من المشاركة في جريمة «سرقةِ أرضٍ ذاتِ شعب
وتشريدِ شعبٍ ذِي أرض». لكنّها حتما تضُخّ
أموالا طائلة في ميزانيّة «الكيان الصّهيونيّ» ثمنا للضّحايا المزعومِين وتَشحنُ
النّفسيّةَ اليهوديّة بداء «البارانويا:Paranoïa»: داءٌ يعزلُ اليهودَ
عن «الأغيار» بما أنّه الغرورُ الـمَرَضيّ
والارتيابُ في الآخَر والّسلوكُ الـمُرائي وعدمُ التّكيّفِ
الاجتماعيّ. هو شرٌّ لا بدّ منه لاستمرارِ النّفوذ الصّهيونيّ على يهود العالم.
حتّى ظاهرةُ «معاداة السّاميّة» لعبت فيها الصّهيونيّةُ
دورَ «مُوقدِ نار الحرب» باعتبارها الوسيلةَ
الوحيدة الّتي تجعلُ اليهودَ مضطهَدين محتقَرين مبعَدين أينما كانوا بما يحملُهم
على طلبِ الخلاص في «الأرض الموعودة». وأتقنَ بها
الصّهاينةُ ابتزازَ المواطن الغربيّ الّذي يتجنّبُ التّلوّثَ بشُبهةِ عداء أبناء «سام». اليومَ يخافُ هذا
المواطنُ كلَّ الخوف مِنَ التّهمة الجاهزة إنْ هو شكّكَ في شرعيّةِ الاستيلاء
الصّهيونيّ على فلسطينَ أو قال بتحريفِ السّاسة للتّوراة أو تعاطفَ مع العرب ضحايا
المحارقِ الصّهيونيّة المتكرّرة أو أدان العنفَ الإجراميّ ضدّ نشطاءِ السّلام...
هذه المسائلُ يتحدّث فيها المواطنُ الغربيّ مُستتِرا خفيضَ الصّوتِ كما نتحدّثُ
نحن عن طغاتنا.
أمّا مَنْ يُنكر «المحرقةَ:Shoah» أي إهلاكَ
النّازيّينَ لخمسةِ ملايين يهوديّ في غُرفِ الغاز أثناء الحرب العالميّة [2] حَسْبَ الادّعاءِ
الصّهيونيّ، فيلحقُه شرُّ التّنكيل: تُغلَق في وجهِه
وسائلُ الإعلام، يُحارَب في قوتِ
يومه، تُحاك ضدّه حملاتُ
القذفِ والتّشهير المدفوعةُ الثّمن حتّى يتبرّأ من موقفه أو يُتبرَّأ منه. يكفِي
أن نستحضرَ محاكمةَ الجامعيّ والفيلسوفِ والكاتب والسّياسيّ الفرنسيّ «روجيه غارودي» [1913-؟] بعد نشر كتابه «الأساطيرُ المؤسِّسةُ
للسّياسةِ الإسرائيليّة» سنة [1995]. كتب في «معاداة الصّهيونيّة»، فأُلصِقتْ به تهمةُ
«معاداة السّاميّة». إدانتُه يوم «27
فيفري 1998» أسقطتْ عديدَ الأقنعةِ
عن الدّيموقراطيّة الغربيّة المهووسة بالحقّ الإنسانيّ في حرّيّة التّعبير وفي
القضاء العادل المستقلّ.
المثالُ الأقرب
زمنيّا هو الأسقفُ الإنجليزيّ «ريشارد نلسن وليامسن» الّذي نَفَى يوم «21 جانفي 2009» المحرقةَ عبر قناةٍ
تلفزيّة سويديّة، مُعتبِرا إيّاها زعما سياسيّا باطلا صنعه الصّهاينة ليبرّروا
تأسيسَ وطنٍ قوميّ لليهود. مُورست ضدّ الأسقفِ شتّى الضّغوط. وأجبره «الفاتيكان» الّذي تبرّأ سريعا من
«فعله الإجراميّ» ذاك على التّراجعِ
عن تصريحاته والاعتذارِ للكنيسة الكاثوليكيّة ولليهودِ الأحياء منهم والأموات.
«جماعاتُ الضّغطِ
الصّهيونيّةُ» اِلتهمتِ اللّغةَ والقانونَ كما السّياسةَ
والتّاريخَ. فقد صارتِ العبارةُ الفرنسيّة «Négationnisme» مصطلحا قائمَ الذّات
يعني «نفيَ المحرقة». وهو موقفٌ يُـجرِّمه
القانونُ في بلدانٍ أروبيّة كثيرة ويُقاضَى القائلُ به. إذا أضفنا سلطةَ الإعلام فَهِمنا
لِم يضعنا الرّأيُ العامّ الغربيّ في قفصِ الاتّهام مُدانِين دون مشقّة البحثِ في
براءتنا.
بقدرِ ما تُفلح
الصّهيونيّةُ في إخمادِ الأصوات المعارِضة تَبْرعُ في اصطيادِ أبواقِ الدّعاية مِنْ
أشهرِ الإعلاميّين والمثقّفين. تَنتقيهم بعينٍ بصيرة ويدٍ طويلة. تَشتري منْ باع
روحَه للشّيطان. وكلّما كان الدّاعيةُ غيرَ يهوديّ كان احتلالُه للعقولِ أعمقَ.
أمّا إذا كان عربيّا فتُغدَقُ عليه العطايا والجوائزُ ويُحاط بهالةٍ إعلاميّة
استثنائيّة: إنّه شاهدٌ مِنْ أهلِ
مكّة الأدرَى بشِعابِها رأى كلَّ شيءٍ عِيانا وارتأَى أن يشهدَ بالحقِّ ولو على
أهلِه. صِدْقيّتُه الّتي لا تقبلُ التّشكيكَ تُقوِّي رصيدَ قاتلٍ يرفُل في جبّةِ
القتيل.
حربيّا وسياسيّا فشِلنا في منعِ الكارثة فَشلا ذريعا
يُفسّره جزئيّا الظّرفُ الاستعماريّ المكبِّل. أمّا فشلُنا الإعلاميّ- الثّقافيّ فكان الأخطرَ
على القضيّةِ الفلسطينيّة وعلينا. أداؤُنا الرّسميُّ المتخاذِل والشّعبيُّ
المتواكل خلق فينا «عقدةَ ذنب» تَـخِزُ وتُدْمي. أعراضُها
الاكتفاءُ بتخوينِ السّاسة ودحضِ المسؤوليّة الفرديّة وانتظارِ يدٍ إلاهيّة. عجِزْنا
إلى الآن عن إيصالِ حقيقة ما حدثَ فعلا إلى الرّأيِ العامّ العالميّ لأنّنا لا نَعِي كونَه
قوّةَ ضغطٍ فعّالةً ولا نُتقِن التّواصلَ الإيجابيّ معه. بالمقابلِ نحمّلُ هذا
الأخيرَ خطايا ساستِه ونهاجمُه بشراسةٍ لاعقلانيّة لأنّه لم يُدرِكِ الحقيقةَ وحدَه.
تتجلَّى عقدةُ الذّنبِ أيضا في محاولتِنا ردمَ النّكبةِ في دهاليزِ الذّاكرة
كأنّها لم تكنْ. مارسْنا على فعلِ التّذكّرِ رقابةً ذاتيّة عبثا نبرّرُها بالسّلطانِ
الرّقيب الحسيب. «ضاعتْ فلسطينُ إلى
الأبد» و«الجيشُ الصّهيونيّ لا
يُقهَر» و«المؤامرةُ أكبرُ منّا» بهتانٌ لا يُعفينا من
واجبِ كشْطِ الذّاكرة الصّدئة. لِفضح الحقيقة علينا أن نُحسنَ توظيفَ العُقدة تلك وأنْ نتتلمذَ للصّهاينة في قدرتِهم
على طمْسِ الحقِّ الأبلجِ.
المراجع:
1- أكرم زعيتر: «القضيّة الفلسطينيّة»، دار الجيل للنّشر
والدّراسات والأبحاث الفلسطينيّة، ط3، 1986.
2- خالد القشطيني: «تكوين الصّهيونيّة»، المؤسّسة العربيّة
للدّراسات والنّشر، ط1، 1986.
3- روجيه غارودي: «الأساطير المؤسّسة
للسّياسة الإسرائيليّة»، دار عطية للطّباعة
والنّشر والتّوزيع، ط3، 1998، ترجمة: حافظ
الجمّالي و صيّاح الجهيّم.
4- نعوم تشومسكي وجلبير
الأشقر: «السّلطان الخطير:
السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة في الشّرق الأوسط»، دار السّاقي، ط1، 2007، ترجمة: ربيع وهبه.
فوزيّة الشّــطّي
تونس: 2011.05.18
هناك تعليقان (2):
أنجزتُ هذا المقال على أساس التّضامن الإنسانيّ المبدئيّ مع قضيّة القرن: فلسطين.
ارتباطُ "الصّهيونيّة" بالإمبرياليّة العالميّة وجوهرُها العنصريّ ومضمونُها "السّلفيّ الجهاديّ"، صفاتٌ تجعلها عدوّةَ الشّعوب جميعها.
إرسال تعليق