ترَى ما تُريد!
[نُشر في "الشّعب": عدد 1027، بتاريخ: 2009.06.20]
تنصبُّ العينُ الإعلامية الثّاقبةُ على مُدرِّسي شتىّ المراحلِ التّعليميّةِ الّذين أُشِيعَ - حقًّا أو باطلاً- أنّهم يبتزُّون التّلاميذَ والأولياءَ بما يُسمَّى "الدّروس الخصوصيّة"، وتُقدِّمهم في أبشع الصُّور الجادّة والسّاخرة. وتتصدّرُ التّلفزةُ هذه الحملةَ الشّرِسة لأنّها الأقدرُ على اقتِحام البيوت بسُلطانِ الصُّورة القهَّار.
في هذا نقولُ: إنّ المتاجرةَ بالأعدادِ عن طريق الابتزازِ المتنوِّعِ الأشْكال - والدّرسُ الخصوصيُّ منْ أهمِّها- جريمةٌ ضدّ أخلاقِ العلم أوّلا وقبل كلِّ شيء، ضدَّ حقوقِ المتعلِّم ثانيا، ضدّ هيْبةِ المدرِّس الّتي سريعًا ما تُخْدَشُ وكثيرًا ما تُهَان. ومثَلُ المدافِعِ عن الفئةِ الّتي ثَبتَ تورُّطُها في هذا الابتزازِ كمثَلِ "مُحامي الشّيطانِ"، عليه أنْ يقفَ ومُوَكِّلَه وِقفةَ الْمُدَانِ في قفصِ الاتّهامِ نفسِه.
لكنّ الغريبَ في الأمر أنّ هذه العينَ - السُّلطةَ لا ترى المدرِّسَ الّذي يقاسِي الأمرَّيْن في الأريافِ النّائية الْمُعدَمةِ حيثُ عليه أن يعلِّمَ التّلاميذَ كيف يجلسون إلى طاولةِ الدّرس قبل أن يعلِّمهم فكَّ الحروفِ وتجميعَها وحيث تتبخّرُ أحلامُه في انتظارِ نُقلةٍ الصُّعودُ إلى القمر أيسرُ منها منالا. لا ترى المدرِّسَ الجادَّ الأمينَ الّذي اختاره إطارٌ بيداغوجيٌّ مهزوزُ الكيانِ في أكثر الأحيان كيْ يُصعِّدَ فيه عُقَدَه النّفسيّةَ والعلميّةَ أو يفرضَ عليه المصادقةَ على "جَرائمَ" ما أنزل اللّهُ بها مِنْ سلطانٍ. فإذا لم يرضخْ لقِيَ ما يلقاهُ عاملٌ في "حضيرةِ بناءٍ" من ربِّ العملِ الآمرِ النّاهِي إذا رفضَ أنْ يغُشَّ في الحديد والإسمنت رِبْحا للوقتِ ولِلنّفقةِ! لا ترى المدرِّسَ وهو يعيش الرّعبَ داخِل قاعةِ الدّرس وخارجَها جرّاءَ جُنوُحٍ تَلْمَذِيٍّ يكاد يصِل حدَّ الظّاهرةِ، هذا إنْ لم يكنْ وصلَها بعدُ [على علماءِ الاجتماعِ أنْ يَبُتُّوا في الأمرِ]. لا تراه يتلقَّى منَ العنفِ المعنويّ [تسوُّلُ الأعدادِ أجلَى مظاهرِه] والعنفِ اللّفظيِّ الّذي يُخجِل الحيوانَ والجمادَ ومِنَ الصّفعاتِ واللّكمات والرّكلات ما جادتْ به قرائحُ أولياءٍ أعْماهُم الحِقدُ على مَنْ يملكُ بين يديْه مفاتيحَ جنّةِ العلمِ والمعرفةِ. ولكنْ يُوصِدُ أبوابَها في وجهِ فلَذاتِ أكْبادِهم شُحًّا أو شماتةً أو كُفرًا بنعَمِ اللّه. وها نحن نسمعُ بين الحينِ والآخر ما يُثبتُ أنّ المدرسةَ التّونسيّة بصَددِ التّحوُّلِ حَلبةَ صِراعٍ البقاءُ فيها للأقوَى عَضَلاً لا عقلاً!
تلك العينُ ذاتُها لا ترى المدرِّسَ وهو يصارِع إلزاماتِ الإدارة – مباشِرةً كانتْ أو جهويّةً أو وطنيّة - الّتي تُمسِك البيروقراطيّةُ برِقابها. إذ يدفعُ وقتَه وجُهدَه ومالَه ليتزودَ بأدواتِ العمَل ومصادرِهِ وليزوِّد بها تلاميذَه دون أنْ ينتظرَ على ذلك جزاءً أو شُكورا. يَكفينا شاهِدا على ما ندّعِي أنّنا إذا طلبْنا كتابًا لازمًا توفُّرُه في مكتبةِ المدرسة لمصلحةِ التّلاميذ سيمرُّ المطلبُ عبرَ متاهاتٍ تتقاطعُ وتتداخل حتّى يصلَ بقُدرةِ قادرٍ إلى "اللاّمكان" حيث يَستوطنُ قريرَ العين لكنْ يائسًا من الفوزِ بتذكرةِ الإيّاب.
لا ترى المدرِّسَ مُتمزِّقا بين مذاهبَ تعليميّةٍ شتىَّ أقرَّها ساكِنُو المكاتبِ الظّليلة المكيَّفة الّذين يجدون "كندا" أقربَ إليهم من "الورديّة" أو "الفوّار" أو "شُربان"... وكلّما انْتابتْهم نوبةُ إلهامٍ [الطّريفُ حقًّا أنّها مُستورَدةٌ دائمًا وأبدًا] جنّدُوا "فئرانَ المخابِرِ" مِنْ مدرِّسين ومتعلِّمين، وأوْكلُوا إليهم مُهِمَّةَ تصْيِيرِ النُّحاسِ ذهَبا والنّعامةِ جَمَلا! أمّا الفشلُ المحقَّقُ المتربِّص بهذه المذاهبِ المسْقَطَة مِنْ عَلٍ فعلى كاهِل المدرِّس ينصبُّ كَـ"حِجارةٍ منْ سِجِّيل"، وأمّا الْمُنَظِّرُ المتعالِي على هذه الأرضِ الطيّبة فلَه براءةُ الاختراعِ أوّلا والتّبرئةُ مِنْ كلِّ مسؤوليّةٍ ثانيا ومِنه أخيرا لا آخِرا، خالصُ الاعتذارِ على تضيِِيع مواهبِه هدَرا!
لا ترى تلك العينُ المدرِّسَ الّذي إذا طالب بحقٍّ مشْروعٍ لا غُبارَ عليه طاردَه "قانونُ الغابِ"، فلَوَى ذِراعَه وعقدَ لسانَه واسْتَلَّ بذْرةَ التّمرّدِ والعِصيان مِنْ "خارطتِه الجِينيّة". ثمّ مثَّلَ بروحِه وجثّتِه معا، وعلّقَهما على أبوابِ المدينة كيْ تَجِفَّا على مَهلٍ عِبرةً لِمن يعتبرُ! ذاك "القانونُ - الشَّبحُ" الّذي يجولُ طيفُه في المدرسةِ التُّونسيّةِ وما يتّصلُ بها مِنْ مؤسَّساتٍ مُصفِّيا الخصومَ والأعداءَ غيرَ تاركٍ مِنَ الآثار على جرائمِه المافيويّة [نِسبةً إلى "المافيا" زعيمةِ الجريمة المنظَّمة] إلاّ ما يمكنُ أنْ تدركُه فِراسَةُ المقتفِي المتمَرِّسِ...
وغيرُ هذا عدَدٌ عدِيدٌ مِمّا لا تريدُ العينُ الإعلاميّة الثّاقبة أنْ تراهُ. فلِمَ ترى ذاك وتتعامَى بصيرتُها عن هذا؟ لمصلحةِ مَنْ تمارسُ سياسةَ الكيْلِ بمكياليْن: أوّلهُما أَوْفَى الميزانَ حتّى فاضتْ جوانبُه، وثانِيهما أُلقِمَ غَبنًا وإقصاءً وتشْوِيهًا؟ أَبيْنَها وبينَ المدرِّسِ ثأرٌ قدِيمٌ يُغلِّي الدّمَ في العروقِ؟
لقد أضحتْ الدّروسُ الخصوصيّةُ "وصْمَةً" يُتّهَمُ بها كلُّ مدرِّس حتّى وهو مِنها بَرَاءٌ. فالرّأيُ العامُّ التّونسيُّ اقتنعَ إلى أجلٍ غيرِ مُسمًّى بالعلاقةِ الشّرطيّةِ التّلازُميّةِ بين أنْ تكون مدرِّسا وأنْ تكون تاجِرًا جوّالاً بِبضاعةٍ نافِقةٍ لم تؤثِّرْ فيها الأزمةُ الاقتصاديّةُ العالميّةُ إلاّ عكسيًّا! لكنّه يتناسَى أنّ هذه الآفةَ هي، في أحدِ وُجوهِها، ثمرةُ ما أصابَ مدرستَنا مِنْ تورُّمٍ في المناهج وتضخُّم في المحتوى المعرفيّ لَم يتركَا للتّدريبِ ولِلمراجعةِ ولإصلاحِ الأخطاء... سِوَى ما يذُرُّ الرّمادَ على العيون. يكفِي إلقاءُ نظرةٍ إحصائيّة على برامجِ الرّابعة ثانويّ مثلا كيْ ندركَ أنّها تُعذِّب أكثرَ ممّا تُكوِّن وأنّها تستنْزفُ الطّاقةَ الذّهنيّةَ والبدنيّة أكثرَ ممّا تَدفعُ المتعلِّمَ إلى إعْمالِ العقل الفرديّ وتجريبِ الإمكانيّات الذّاتيّة فيما يتهاطلُ عليه مِنْ طُوفانِ الدّروس. وقدْ صدقَ المثلُ الشّعبيُّ عندما رمَز إلى صُعوبةِ أيِّ أمْرٍ بالقولِ: «أصعبُ مِن الباك». وأرجِّحُ أنّ التّضخُّمَ الكَمِّيّ للبرامجِ ولساعاتِ الدّرسِ هو أهمُّ مُسبِّبات هذه الصّعوبة. ضِفْ إلى ذلك ثمنَ الدّرسِ الخصوصيّ الّذي يُرهِق ميزانيّةَ العائلاتِ التّونسيّة لأنّه صار شرًّا لا بدَّ منه، وربّما اُعتُبرَ أوْلىَ مِنَ الغذاءِ السّليم أو الدّواءِ الشّافي.
إنّ انحطاطَ المستوى المعيشيِّ الّذي صارتْ تكابدُه الطّبقةُ المتوسِّطة – والمدرِّسُ منها– لا يمكنُ أنْ يبرِّرَ امْتصاصَ دَمِ الآخرين. خليقٌ بنا أنْ نُناضلَ فرديّا وجماعيّا مع الوعْيِ العميق بالمصلحةِ العامّة لنكتسبَ حقَّنا في حياةٍ أوفرَ كرامةً لا أنْ نلتهمَ الخبزَ المرَّ الّذي يجنِيه أولياء كادِحون مكْدُودُون. ثمّ إنّ الدّرسَ الخصوصيّ ظهر لسدِّ النّقصِ في بعض الموادِّ عند بعض المتعلِّمين، وجعلُه درسًا "إلزامِيّا" مُوازِيا للحِصصِ الرّسميّةِ أو بدِيلا عنها في عديدِ الحالاتِ يزيدُ مستوى تلاميذِنا تدنِّيا ومدرستَنا عبثيّةً ومدرِّسِينا هشاشةً وتهميشا.
بالتّوازي مع هذا عيبٌ على الإعلامِ الوطنِيّ أنْ يُهدِرَ طاقتَه في تأليبِ المتعلِّم والوليِّ على المدرِّس وأنْ يقدِّمَه لِناظريْهما عدُوًّا شرِسًا تجميعُ المالِ ديدنُه وعلّةُ وُجوده، عيبٌ عليه أنْ يُدمِن سياسةَ «كبشِ الفِداء» الْمُعَدِّ للسّلخ حيّا دُون الاجتهادِ في تعليل الظّاهرة وتفكيكِ أسبابها المعلَنة والخفيَّة، عيبٌ مَعِيبٌ أنْ يرى بعينٍ واحدة تَحْوَلُّ أحيانا وتَعْمَشُ أخرى، وربّما كَلَّتْ ونامتْ مِلءَ جُفونِها عن شوارِدِ الهُمومِ الجَمْعِيّة الحقيقيّة.
فوزيّة الشّـطّي
تونس: 2009.05.29
هناك تعليق واحد:
المصداقيّة في نقل الخبر و الموضوعيّة في تحليله: لن يتحقّقا إلاّ في إعلام عموميّ مستقلّ عن الحزب الحاكم و عن الحكومة ككلّ.
إرسال تعليق