نحنُ شعبٌ لا يَقرأ
[نُشر في "الموقف": 2010.05.21، عدد: 547]
أثبتتْ أروِقةُ معرضِ الْكتابِ في دورتِهِ 28 وما قبلَها أنّ الْكتابَ عندَنا صارَ بِضاعةً "دَيناصُوريّةً" أو يَكادُ. فالزّوارُ قِلّةٌ والْجيوبُ
خاويةٌ والْعارِضونَ ينفضُون الْغبارَ ويَذبّون الذّبابَ ويُعلِّلُونَ النّفسَ
بأنّ الْعِبرةَ بِالْمُشاركةِ. حتّى إنّ بعضَهم مِن داخلِ الْبلادِ وخارجِها آثرَ
الْغِيابَ الّذي يَحفظُ ماءَ الْوجهِ و"ثروةً" كانتْ ستَضيعُ هَدَرًا في كِراءِ الْأجنحةِ
وخلاصِ النّزل ومصاريفِ التّنقّلِ...
بِضعَ
سنواتٍ خَلَتْ كُنّا نَصطفّ مُتدافعِين صاخِبين أمامَ بابِ الْمعرضِ تَشوّقًا
لِلُقيَا كُتبٍ نَحلُمُ بِاحتِضانِها والْتِهامِها. لا جدوَى مِنْ أنْ نُحمِّلَ
وسائلَ الاتِّصالِ الْحديثةَ مسؤُوليّةَ هذه الرِّدّةِ الْمُفزِعةِ لأنّها أكثرُ بَراءةً
مِنّا. ولِأنّ الْمؤسّسةَ التّربويَّة هيَ رُبّانُ السّفينةِ في كلِّ بلادٍ فإنّي
أَعتبرُها أوّلَ الْمُدانِينَ لا آخِرَهم. أسبابُ الإدانةِ كثيرةٌ مِنها:
- خَلتْ نِسبةٌ هامّةٌ مِنَ الْمدارسِ
ابتدائيّةً وإعداديّةً وثانويّةً مِنْ مَكتباتٍ تَفِي بالْحاجةِ. وبعضُها فَقدَتْ
مَكتبتَها الْغنيّةَ فِي ظروفٍ غامضةٍ لا يَفُكّ طلاسِمَها إلاّ "شارلوك هولمز"
وصحبُهُ. حَسْبُنا شاهِدًا على هذا الْفقرِ الْمُدقَعِ أنّ قواميسَ اللّغةِ
الْعربيّةِ مَعدُومةٌ في أغلبِ الْمَدارسِ. فإذا كلّفْنا تِلميذًا بِشرحِ بعضِ
الألفاظِ مُعجميّا لِيُغنِيَ زادَهُ اللّغويّ الْهَشّ وَجدَ ما يُبرِّرُ
تَهاونَهُ. إذنْ أضْعفُ الْإيمَانِ أنْ نُعيدَ تدريجيّا تَأثيثَ ما فُقِدَ وما
سُلِبَ. وحتّى نُسرِّعَ هذه الْعمليّةَ يَجبُ أنْ يكونَ شِراءُ الْكتبِ مُكوِّنا
رَئيسًا مِن ميزانيّةِ كلِّ مؤسّسةٍ يُحاسَبُ مَسؤولُها الْمُباشِرُ على الْعَبثِ
بِه أو إنفاقِهِ في غير مَحلِّهِ. أمّا أنْ يَظلّ اقْتناءُ الكُتبِ حِكْرًا على
طرفٍ إداريّ بعيدِ الصِّلةِ بالْمدارسِ ضعيفِ الْمعرفةِ بحاجاتِ رُوّادِها
فَبيروقراطيَةٌ مُرهِقةٌ تُؤجِّلُ عمليّةَ التّأثيثِ هذه عُقودًا. وكيْ نَحميَ
الْمكتباتِ الْمدرسيّةَ باعتبارِها مِلكًا عامّا تَتداولُ عليه الْأجيالُ يَنبغِي
سَنّ قوانِينَ حازِمةٍ تُحاسبُ الْمُعِيرَ والْمُستعِيرَ على السّواءِ وتُلاحقُ "العابِثين"
مِنهُما قَانونيّا.
- يُحجِّرُ الْقانونُ على الإطارِ
التّربويِّ تكليفَ التّلاميذِ
بشراءِ كُتبِ الْمطالعةِ. مَقاصدُ هذا الْقانونِ سليمةٌ تَأخذُ بعينِ الاعتبارِ
ضُعفَ الْقُدرةِ الشِّرائيةِ الْعائليّةِ وارتفاعَ أثْمانِ الْأدواتِ المدرسيّةِ وتَحمِي
الْمتعلِّمَ والْولِيّ مِن اتِّساعِ نِطاقِ الشِّراءاتِ. لكنْ في الْعامِ
الدِّراسيِّ الْواحدِ أيّهما أشَدّ فَتكًا بِميزانيَةِ الْعائلةِ التّونسيّةِ:
شراءُ ثلاثةِ كُتبِ مطالعةٍ أمْ مصاريفُ الدّروسِ الْخُصوصيّةِ داخلَ الْمدرسةِ [هي مُقنّنةٌ ورحيمةٌ نسبيّا] وخارجَها [لا تَخضعُ أثمانُها إلاّ لِقانونِ الْعرضِ والطّلبِ]؟ لا أحسَبُنِي مَدعوّةً إلى الإجابةِ. بيدَ أنِّي أجزِمُ أنّ الْولِيّ لنْ
يَعوذَ بالْقروضِ الْبنكيّةِ كيْ يُؤمِّنَ لأبنائِه هذه الْكُتبَ الْمُقترَحةَ.
نَرَى إذنْ أنّ حُسنَ النِّيّةِ في
التّشريعِ لا يَكفِي. فالأَوْلَى أنْ يُوجدَ قانونٌ يَضعُ حدودًا صارِمةً للشِّراءاتِ
دونَ أنْ يُغلقَ كلّ الأبوابِ. ثُمَّ إنّ تعوِيدَ التِّلميذِ على اقتناءِ الْكتبِ
غيرِ الْمدرسيّةِ سيُقلِّصُ على الْمدَى الطّويلِ عَلاقتَه النّفعيّةَ بالْكتابِ.
ففي عُرْفِنا هذا الأخيرُ إمّا مَدرسيّ رسْمِيّ مفروض عليه وإمّا مُوازٍ تِجاريّ
مضطَرّ إليه. مِنْ حقِّ النّاشئةِ علينا أنْ نُدخِلَ كتابَ الْمطالعةِ في عاداتِها
الشِّرائيّةِ الْيوميّةِ. قد تُفلِحُ هذه الْوسيلةُ في اصْطيادِ بعضِ قُرّاءِ
الْغدِ و الإيقاعِ بِهم في شَرَكِ الإدْمانِ على الْقراءةِ الْحرّةِ. وحبّذا
الإدْمانُ.
- في السّنواتِ الأخيرةِ صارتْ الْمطالعةُ مِنْ مادّةِ الْعربيّةِ تُسمّى "حصّةَ التّرغيبِ في الْمُطالعةِ". في هذه التّسميةِ انْزِلاقٌ خطيرٌ: أوّلاً
أفْقدَتِ الْمادّةَ السِّمةَ الإجباريّةَ الضّروريّةَ، ثانيًا حَمّلَتِ الْمدرّسَ
وحدَهُ تَبِعةَ الْفَشَلِ في جرِّ الْمتعلِّمين بالسّلاسِلِ الْحريريّةِ إلى جنّةِ
الْمطالعةِ، ثالثًا أضْفَتِ الشّرعيّةَ على فراغِ الْمكتباتِ الْمدرسيّةِ أوِ انْدثارِها، رابعًا بشّرَتْ بنَشْرِ الأمّيّةِ داخلَ مؤسّسةٍ جُعِلتْ في
الأصْلِ لِمَحْوِها.
أقتَرحُ بناءً على ما سبَقَ أنْ تَعودَ
الْمطالعةُ حصّةً إجباريّةً يُجازَى مُنجِزُها ويُعاقَبُ تارِكُها. بل إنّ
الْمَأزقَ الْحَضاريّ الّذي نتخبّطُ في أوْحالِهِ يَفرِضُ علينا امْتحانَ تلاميذِ
شتّى الشّعَبِ والْمُستوياتِ في الْمطالعةِ مرّتينِ في الْعامِ على الأقلّ
اِمْتحانًا كتابيّا يُحتَسبُ الْعددُ الْمُسندُ فيه تَمامًا كفُروضِ الْمقالِ والتّحليلِ
الأدبيّيْنِ. يَحسُنُ أنْ يكونَ الاخْتبارُ مِنْ قبيلِ دراسةِ النّصّ الّتِي لا
يَستطيعُ أنْ يُجيبَ عنْ أسئلتِها إلاّ مَن قَرأ الْكتابَ فِعلاً. أنا على يَقينٍ
مِنْ أنّ إعادةَ الاعْتبارِ لِهذه المادّةِ الْجليلةِ كَفيلٌ بشَطْبِ فائضِ
الدّرسِ الْخصوصيّ في موادّ جَمّةٍ أدبيّةٍ وعلميّة.
- في ما أعْلمُ توقّفتْ قائماتُ كُتبِ الْمطالعةِ الْمدرسيّةِ عنِ النّمُوّ
منذُ دُهورٍ. كأنّما قَطعتْ علائِقَها مع سُوقِ الْكتابِ الّتِي تُمطِرُنا يومِيّا
بالْجديدِ. لا مَكانَ في هذه الْقائماتِ الْمُجمّدةِ لِغادة السّمّان أو أحلام
مستغانمي أو أمبرتو إيكّو أو غارسيا ماركيز أو محمود درويش، وغيرُهم كثيرٌ. لا
مَكانَ فيها لِلأدبِ الصّينِيّ أوِ الْيابانِيّ أوِ الْفارسيّ أو الأفغانِيّ أوِ
الأفريقيّ، والْقائمةُ تَطولُ. والْمُفارقةُ الْعَجيبةُ أنْ يُتّهمَ الْمدرّسُ
الْخارجُ رَغمَ أنفِهِ عنِ الْقائمةِ الرّسْميّةِ بتُهَمٍ شتّى تَتراوحُ بين التّكفيرِ
وبينَ الإخْلالِ بالأمْنِ الْعامّ!
هكذا يقعُ الْمدرّسُ الْحريصُ على
إنجازِ الْمطالعةِ بين ناريْن: تَدقّهُ مِطرقةُ الْمكتباتِ الْمدرسيّةِ الْفقيرةِ
إلَى ربِّها ويَكسِرُ عَظمَهُ سَنْدَانُ الْقائماتِ الرّسْميّةِ الَّتِي لا تَرى
ولا تَسمعُ ولا تُحبّ أنْ يتكلّمَ أحدٌ. فإنْ خَرجَ شبهَ سليمٍ مِنْ بَراثنِهما
أحْبطَ عزيمتَهُ مُتعلّمٌ لا يُتقِنَ عدَا سَفالَةَ ملاعبِ كرةِ الْقدمِ أو
بَذاءةَ "سَايِسْ خُوكْ"، يَحفظُهما ويُنشدُهما ويَنحتُهما على
الْجدرانِ ويَستَشهِدُ بِهما في تَحاريرهِ الْعَصْماءِ!
نحن شعبٌ يقرأ الكفّ والرّملَ
والفنجان كما لا يقرأها أحد. فمتى يجد الكتابُ مَوطِئَ قَدَمٍ في هذا الزّحام؟
فوزيّة الشّـطّي
هناك تعليقان (2):
وما نزال على نفسِ الحال: لا نقرأ ولا نريدُ أن يقرأ أحدٌ منّا حتّى لا يُربكَ عُقدَنا...
أمّة "اقرأ" = آخرُ من يقرأ
إرسال تعليق