مَأسَسةُ الفسادِ: المدرسةُ نَموذَجا
حسْب بعض الإحصاءات المتفائلة، يلتهم الفسادُ ثلثَ النّاتج القومي العربيّ. وكي يكتسبَ الفسادُ قدرة على التهام ما حوله، يحتاج مَأسسةً تقتضي بدورها العملَ الجماعيّ المنظّم، لكن في غير الصّالح العامّ. فيُضفي الإجماعُ "شرعيّة" على السّلوك الفاسد قِيميّا وقانونيّا. هذه الشّرعيّة، حتّى وهي ضمنيّة، تَهبُ الفسادَ سلطةً قاهرة يمارس بها طقوسه في ظلام اللّيل والنّهار. لنا في المجال التّربويّ شواهدُ جمّة.
أقصَى الأستاذُ تلميذا من قاعة الدّرس بسببِ الوقاحة والعنف والتّطاول على حرمة القسم ومحاولة الغشّ أثناء إنجاز الفرض. عمّر الأستاذُ الخبيرُ بالكيْد الإداريّ تقريرَ الإقصاء كما تعوّد أن يفعل. وتعهّد بكتابة تقرير مفصّل بمقتضاه يحالُ التّلميذُ على "مجلس التّربية" وفقا للمناشير الوزاريّة في هذا الشّأن.
عُقد اجتماعٌ طارئ بين مديرٍ اعتادَ أن يبيع ذمّتَه بأرخصِ الأثمان وبيْن وليّ ألِف أن يشتريَ شهادات تفوّق ابنه بما استطاع إليه سبيلا. توصّل الجانبان المتحالِفان إلى اعتمادِ خطّة فيها مِن الدّهاء الإداريّ بقدْر ما فيها من الغباء القانونيّ. أسبابُهما مختلفة. والغايةُ واحدة: لَـيُّ عُنقِ الحقيقة.
أوّلا: يدّعي الولـيُّ أنّ ابنَه تعرّض بعد إقصائه مباشرةً إلى اعتداءٍ خطير لأنّ الأستاذَ ألقى به في الشّارع بدل تركِه في عُهْدة الإدارة. لقد اعترضَ سبيلَه صُعْلوكان وحاولا تحويلَ وِجْهته قسْرا و«شلّطا» وجهَه بآلة حادّة. في غمْرة الأحداثِ لم يسجِّل الوَليُّ محضرا بمركزِ الشّرطة للإعلام بهذا "الاعتداءِ الخطير" ولم يُحضِرْ شهادةً طبيّة تثبتُ الضّررَ الحاصِل. وعن حُسن نيّةٍ التأم الجرحُ العميق في لمحِ البصر.
ثانيا: تُنكر الإدارةُ وجودَ تقرير الإقصاء حتّى يُتّهم الأستاذُ بارتكابِ خطإ قانونيّ فادِح عرّض حياةَ المتعلّم البريء إلى الخطر. تطوّع أعوانُ المدير للإدلاءِ بشهادةِ الزّور جماعات وَوِحدانا. فانتشَى المديرُ الحديثُ العهدِ بالمنصب. وهيّأ النّفسَ الأمّارةَ بالسّوءِ لجنْـي المكاسِب. أقلّها أنْ يجبرَ الأستاذَ على إلغاء العُقوبة كسْبا لودّ الأولياء المتنفّذين ذوِي البَاع والذّراع، أنْ يجرّه إلى فخّ الدرّوس الخصُوصيّة التّي ستُثرِي ميزانيّةَ المؤسّسة بمال وفير لن يُعرف بابُ دخوله ولا شبّاكُ خروجه، أنْ يدفعَه إلى تضْخيمِ الأعداد الكارثيّة، وهو ما يُسمّى في لغة المؤسّستين الإداريّة والاجتماعيّة "إعانة". يريدُ المديرُ المتربّعُ على عرشِ المسؤوليّة أن يفاخرَ بمعدّلاتٍ وهميّة لا تعكس المستوى الفعليَّ للتّلاميذ حتّى يقوّيَ رصيده عند بعض رؤسائه. وتلك سياسةٌ شائعة في أغلب مدارسنا شُيوعَ العنف والعَبث والأميّة. فلا تنسوْا أنّنا في بلدٍ مهْووس بالأرقام الّتي تقول كلَّ شيء عدا الحقيقةَ.
أقبل الولـيُّ مُهدِّدا متوعِّدا كالمعرَبد في الطّريقِ العامّ، وانتصبَ المديرُ نافشا ريشَه مُبارِكا كلَّ تفاصيل الاعتداء عازِما على مَزيدِ التّحالف حتّى يتوبَ المارقُ ويُلقيَ سِلاحَه. كان ذلك درْسا في التّعاونِ المثمِر بين مؤسّسة اجتماعيّة ضيّعتْ بوْصلةَ القِيم جميعِها وبين مؤسّسة تربويّة شارفتِ الإفلاسَ دون أن تجرؤَ على الاعترافِ بذلك.
مِن شروطِ مأسَسة الفَساد السّكوتُ عن وجودِه وإحاطةُ إنجازاته بالصّمتِ الرّهيب وتصفيةُ أعدائه الشّواذّ بنيرانٍ صديقةٍ. إنّ المؤسّسةَ موجودةٌ، لكنْ وجودَ العدم. وهي مقيّدةٌ مبدئيّا بتُرسانة مِن القوانينِ والتّشريعات والمناشير. لكنّ واقعَ الحال يُثبت أنّ "اللاّقانون" هو صاحبُ الكلمةِ الفصْلِ في كلّ صغيرةٍ وكبيرة، إلاّ من رحِم ربُّك. لذا أرى أنّ مأسَسةَ الفساد هي الوجهُ الخلْفيّ لما يسمّيه الأستاذُ "عياض بن عاشور": «الوهْم المؤسّساتِيّ».
بمؤسّسةٍ إداريّة كهذه سنقتحمُ غمارَ التّقدّم والنّماء والرّفاه في وضَح النّهار مِن ثُقبٍ في الجدار. بمعاولِ إدارة كهذه سنضعُ حجرَ الأساسِ لمدرسة الغد، ذاك الغدُ الّذي قال عنه الشّاعرُ الغزِل المرِح "عمر بن أبي ربيعة": «كلّما قُلتُ متَى مِيعادُنا ... ضحِكتْ هِندٌ وقالتْ: بعدَ غدْ».
فوزيّــة الشّــطّي
تونس: 2010.12.08
هناك تعليقان (2):
إذا صار الفساد مؤسّسة كاملة الشّروط أضحى تفكيكه معضلة حقيقيّة. هذا لأنّ قطع رأس الفساد لا يجفّف العروق بقدر ما ينفخ فيها دما جديدا فتيّا، هو الدّم الفاسد المفسِد.
نعم، سقطُ الرّئيسُ السّابق. لكن لم يسقط النّظامُ، نظامُ الفساد الّذي تمأسسَ حتّى صار كأنّه دولة داخل الدولة الأمّ.
إرسال تعليق