الثّورةُ: اِنتكاسٌ أم انتعاش؟
تونس: 2011.05.11
لم تتّضح الرؤيةُ لعموم التّونسيّين حتّى بعد أربعة أشهر من سقوط الطّاغية. مازال الوضع السّياسيّ ضبابيّا والوضع الأمنِيّ منفلتا والوضع الحقوقيّ أشبهُ بما قبل الثّورة منه بما بعدها. عادت جهات كثيرة إلى نقطة الصّفر من الاحتجاج الفوضويّ العنيف. وتضاعفت اعتصاماتُ «الآن الآن وليس غدا». لا يُعقل تحميلُ كلّ المسؤوليّة لتصريحات وزير الدّاخليّة السّابق السيّد «فرحات الرّاجحي». تلك قطرة أفاضتْ كأس الارتياب الّتي نترشّفها جماعةً منذ محنة الفصل [56] إلى يومنا هذا. اِختيارُ أسهل الحلول للخروج من المأزق أليقُ بمراوغات «دولة الفساد والاستبداد» منه بالتّأسيس للشّفافيّة الّتي لا تخدش هيبةَ الدّولة بقدر ما تحصّنها من الرّجات العفويّة والقصديّة.
ما معنى أن تكتفي الحكومةُ الانتقاليّة طيلة ثلاثة أيّام بمجرد «الأسف» و«الاستغراب» في ردّها على تلك التّصريحات الخطيرة؟! أليست بهذا الموقف الباهت تستغبِي الجماهير الّتي استبشرتْ بتعيين السيّد «الرّاجحي» على رأس وزارة السّيادة ثُمّ باركتْ جرأتَه على تطهيرها مِمّن اعتبرهم أهمّ رموز الفساد الأمنيّ ثُمّ استنكرتْ إقالتَه المفاجئةَ المحفوفةَ بالصّمت المريب؟ كنّا نتوقّع مواجهة علنيّة بين المتّهِم و المتّهَمين: تردُّ بعض الحقّ لأصحابه، تعيد لنا الثّقة الّتي استلّتها هجماتُ الثّورة المضادّة، تكشف أسبابَ التّكتّم طويلا عن "المؤامرة المزعومة" وأسبابَ التّصريح بها في هذا الظّرف بالذّات، تقرِّبنا من حلم الصّرح الدّيموقراطيّ الّذي يلتقي فيه الإخوةُ الأعداءُ على رؤوس الملإ من أجل المصلحة الوطنيّة العليا. لكنّ شيئا من ذلك لم يقع. إنّما أطلّتْ نبرةُ «التّخوين» باحتشام من بعض وسائل الإعلام مقلّدةً ما صنعت «العصابةُ الحاكمة» بالخصوم السّياسيّين والحقوقيّين والإعلاميّين.
إدانةُ «القاضي» أكسب تصريحاته صِدقيّةً ما كان بوُسع أيِّ دفاع أن يُكسبها إيّاها. الهرولة إلى رفع الحصانة القضائيّة عنه برهنت أنّ «المجلس الأعلى للقضاء» المدينِ بوجوده إلى الرّئيس السّابق و المدينِ باستمراره إلى الحكومة الحاليّة ما انفكّ مسيَّسا على الطّريقة التّجمّعيّة. أمّا خطاب «الفسق والجنون» فقد هتك سترَ هيبة الدّولة الّتي تفانى الجهازان الأمنيّ الموروث والإعلاميّ المروَّض في ترقيعها و ترميمها.
يتساءل المواطن البسيط: لِم يسير الجهازُ القضائيّ الهوينَى في القضايا المصيريّة الّتي تهمّ الشّعب همّا بتثاقلِ مَن لا ينوي أن يصل أبدا؟ وبالمقابل ينطّ نطّا ويحرق المراحل ويقفز على حواجز التّشريع سماويّها و أرضيّها كي يُلجم «خصما افتراضيّا». هذا الأخير لم يفتح السّجون ولم يسلّح العصابات المنظَّمة المستنفَرة ولم يهيّج الأطفال والمراهقين. كلّ سؤال لا ينال جوابا رسميّا مقنعا يجد بالضّرورة إشاعة محبوكة التّفاصيل. وما يروّجه الشّارعُ التّونسيّ عن محاكمة السّيّد «عماد الطّرابلسي» أفصح دليل. حُرم الضّحايا شهادةَ العيان، فاشتغلت شهادةُ اللّسان المنفلت من كلّ قيد ليسدّ نقصَ اليقين بفائض التّخمين.
لستُ أعارض من قال: «اُتركوا الحكومة تعمل أوّلا. ثُمّ حاسبوها». إنّما أستدرك: «هلاّ أرتنا عملها». على أرض الواقع نحن لا نعيش أيَّ قطيعة مع منظومة الفساد لا في التّعليم لا القضاء لا الإدارة لا الإعلام لا الأمن. الملفّات المغلقة أدهَى من نظيرتها الّتي فغرتْ فاها في وجوهنا دون أن يُبتّ في أمرها. دمُ الشّهداء بات يخشى على نفسه السّقوطَ من الذّاكرة الجماعيّة ومن الحسابات السّياسيّة. كيف لا نعرف إلى الآن مَن قتل مَن؟ بأيّ حقّ تُمنع عنّا أحداثُ اللّيلة الأخيرة ليلةِ رحيل الطّاغية هاربا أو مهرَّبا، محميّا أو منفيّا؟ أكانت الاحتجاجاتُ الأخيرة تحذيرا من مغبّة سرقة الثّورة؟ أهي عمليّةُ جسّ نبض بين قوى سياسيّة متناحرة لمعرفة مَن يحكم الشّارعَ أكثر مِن الآخر؟ أم هي ثأرُ أسياد الأمس القريب؟ أم جاءت ناقوسَ خطر يفضح هشاشةَ الوضع النّفسيّ العامّ؟ لمصلحة مَن تتضخّم الحيرةُ الجماعيّة حتّى تلامس الارتيابَ المرَضيّ؟
أتُراني أجانب الصّواب إن ادّعيتُ أنّ عتاةَ «التّجمّع الدّستوريّ الدّيموقراطيّ» اِستأنفوا صراعهم من أجل البقاء الّذي هو، كما تكشفُ الطّبيعيةُ الحيّة، أشدّ الصّراعات ديمومة وفتكا وطول نفَس؟ أهمُّ رسائلهم إلينا: «إذا متُّ ظمآنا فلا نزلَ القَطرُ»، «فينا الخصامُ. ونحن الخصم والحكَم»، أنتم «كالمستغيث من الرّمضاء بالنّار»، إمّا نحن وإمّا الفوضى والرّعب والخراب العامّ. حالةُ الوَهن أعادت الادّعاءَ أنّنا جديرون بالاستبداد ولسنا مؤهّلين بعدُ للدّيموقراطيّة. بل إنّ بعض التّونسيّين شرعوا يتحسّرون إنْ سرّا أو جهرا على «بلد الأمن والأمان» متمنّين استعادته في أقرب الآجال. أخطر ما في هذا التّمنّي أنّه يُسقِط الثّقة عن الثّوّار ويسحب البساط من تحت أقدام الثّورة الغضّة.
تصاعدُ نسقِ خيبات الأمل جعل بعضنا يؤمن بأنّ زمام الأمور ماتزال بيد «ضيوف المملكة العربيّة السّعوديّة». حتّى إنّ فلاّحة أمّيّة قالت لي بيأس فاجع: «لا أستغرب أن أفتح عينيّ يوما لأجد "بن عليّ" يحكم البلاد من جديد. وقتها سيشرب دمَ من قال فيه ربع كلمة!» في طريق العودة وجدتنِي أشاطرها نفسَ الهاجس.
فوزيّة الشّـطّي
هناك تعليقان (2):
الاحتمالان مازالا وارديْن. فما أشبه اليوم بالبارحة...
اليومَ، أكثر من أيّ وقت مضى يُطرح هذا السّؤالُ المصيريّ..
إرسال تعليق